تنتهى فترة رئاسة المستشار عدلى منصور للمحكمة الدستورية العليا 30 يونيو الحالى، لبلوغه السن القانونية. بانتهاء آخر جلسة برئاسته 4 يونيو، نظم أعضاء المحكمة حفلاً لتكريمه، اليوم التالى زار مجلس الدولة، الذى التحق به 1970، وتدرج حتى أصبح نائباً لرئيسه 1992، ليعبر عن الانتماء، والوفاء لعلاقات صداقة وزمالة ربطته بأعضائه، وعلى رأسهم المستشار جمال طه ندا، رفيق دفعته الدراسية، رئيس المجلس، وزميله لـ22 عاماً، قبل انتقاله للدستورية. الزيارة أثارت الاهتمام، ردد البعض أنها استهدفت مفاتحة ندا فى إنشاء هيئة استشارية تابعة لرئاسة الجمهورية، بعض المصادر نشرت رسالة وجهها مجموعة قضاة أطلقوا على أنفسهم «جموع قضاة مصر الشرفاء» لرئيس الجمهورية تحذر من إنشاء تلك الهيئة، باعتبارها «تنظيماً موازياً للنظم الحالية التى تدعم الرئاسة، كالشئون القانونية ومجلس النواب ولجانه التشريعية والدستورية وقسم التشريع بمجلس الدولة، تمس استقلال القضاء، وتحمل شبهة تسييسه»، وأضافت الرسالة أن «الاستعانة برئيسى الدستورية ومجلس الدولة بعد تقاعدهما يثير التأويل والتفسير»، وتساءلت عما إذا كان ذلك يمثل «مكافأة نهاية خدمة»!!
والحقيقة أن الرسالة تثير العديد من التساؤلات، من هم أعضاء هذه المجموعة؟ كثيرون أم قلة؟ هل تسمح منظومة القضاء بإنشاء تجمعات تخاطب السلطة السياسية بعيداً عن نادى القضاة، والمؤسسات الرسمية للعدالة؟ هل يمثلون امتداداً لـ«تيار الاستقلال»، الذى دعم تحركات الإخوان فى عهد مبارك، و«قضاة من أجل مصر» الذين دعموا نظام حكمهم فى عهد مرسى؟ من فوضهم بالحديث باسم «جموع قضاة مصر»؟ هل وصف أنفسهم بـ«الشرفاء»، يعنى أن ماعداهم غير ذلك؟ وما الذى يمنع استفادة الدولة من الخبرات المتميزة لبعض المتقاعدين؟ والمثير أن المصادر نشرت رسالة تحذير سابقة للرئيس وجهتها نفس المجموعة استناداً لـ«شائعة» تتعلق بالنية لمد سن التقاعد للقضاة لـ72 عاماً، وفى رسالتهم الأخيرة أشاروا لأنهم استندوا لما وصفوه «حسبما أفصحت الجدران التى لها آذان تسمع»، فهل يجوز لسدنة العدالة الاستناد لمثل تلك الهمهمات كمصادر لأحكامهم؟ التساؤلات السابقة لا تتعلق بشخص منصور، ما يتعلق به يفرض إنعاش الذاكرة بالوقائع والملابسات.
منصور ظل الرجل الثانى بالدستورية لقرابة عشر سنوات، اختارته الجمعية العامة للمحكمة لرئاستها، وصدّق مرسى على القرار مايو 2013، قبل أيام من الإطاحة بحكم الإخوان، اختارته القوى الوطنية رئيساً مؤقتاً للبلاد ٣ يوليو 2013، أدى اليمين كرئيس للدستورية 4 يوليو، وبعدها بدقائق أدى اليمين كرئيس للجمهورية، صدمات سريعة، متتابعة، دون مقدمات، لرجل هادئ، رزين، لا يرغب فى المنصب، لكنه أدرك أن اعتذاره يخلق أزمات، من ناحية لأن قادة الجيش حريصون على تجنب استنساخ تجربة حكم «المجلس العسكرى»، بما ألحقته بصورة المؤسسة العسكرية من أضرار، فضلاً عما سيترتب عليها من نتائج على الصعيد الدولى، فى ظل حملة مكثفة استهدفت وصف التغيير السياسى الذى فرضته المعارضة الشعبية لحكم الإخوان باعتباره «انقلاب عسكرى»، من ناحية أخرى فإن اعتذاره يفتح الساحة المضطربة على مصراعيها لصراعات السياسيين المتنمرين للقفز على مقعد الرئاسة، من ناحية ثالثة فإن البلاد كانت على شفا احتراب أهلى، ومؤسساتها الرسمية شارفت على الانهيار، كنتاج لعام من محاولات الإخوان لتفكيكها، وإحلال مؤسساتهم الموازية كبديل، وأخيراً فإن سعى المعتصمين فى رابعة للتمدد والسيطرة على مركز القاهرة الدولى للمؤتمرات أكد سعيهم لتوفير مقرات وكيانات تسمح بإعلان حكومة وبرلمان موازيين، ومدعومين دولياً، القدر كان قد أعد منصور لإدارة الدولة، والتعرف على طبيعة عمل مؤسساتها، خلال عمله بإدارات الفتوى والتشريع لوزارات التربية والتعليم والتعليم العالى، الخارجية والعدل، الأوقاف والصحة والشئون الاجتماعية والأزهر، وكمستشار لصندوق مبانى الخارجية، المركز القومى للبحوث، الإصلاح الزراعى، الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ووزارة التجارة.
فترة رئاسة منصور 330 يوماً، أعقبت ثورتين، حماس شعبى، ردود فعل عصبية، والمرجعية للميادين، الانقسام الوطنى أحدث اضطراباً أمنياً، ومواجهات يومية، رغم ذلك مرت كالنسمة، على شعب اعتاد أن يجثم الحاكم على صدره، ملكاً أو رئيساً، حتى يحل أجله، منصور حرص ألا يكون نسخة مكررة، دعا فى خطابه الأول إلى «التوقف عن صناعة الطغاة، فلا نعبد من دون الله وثناً ولا رئيساً»، وطبق ذلك بتفويض معظم صلاحياته التنفيذية الداخلية لرئيس الوزراء، مكتفياً بصلاحياته السيادية والتشريعية، تجنباً لشُبهة «الفرعون الإله»، وتمسك بتفعيل دور مؤسسات الدولة، خاصة السيادية، كل فى مجال اختصاصه، ما مكنه من استعادة دور مؤسسات الدولة بالداخل، ومكانة مصر الدولية بالخارج، تعامل مع أزمات الوطن بقرارات جريئة، فض اعتصامى رابعة والنهضة، انطلق من قناعة بأن المصلحة الوطنية تقتضى بسط هيبة الدولة، وفرض الأمن، حتى لا تفلت الفوضى من عقالها، القبول الفورى لاستقالة نائبه «البرادعى»، ودون مراجعة أحد، استند للحرص على وحدة وتماسك السلطة السياسية، خاصة بعد رفضه فض الاعتصامات، ودعوته للمصالحة والعفو عن قادة الإخوان، تشكيل لجنة خبراء من 10 قانونيين لتعديل الدستور، لنزع ما فيه من ألغام زرعها الإخوان، نجاح كان يغرى بالاستمرار، لكنه عدّل «خارطة الطريق» ليكون الاستحقاق الرئاسى سابقاً عن الانتخابات البرلمانية، بهدف تهدئة الاستنفار السياسى، ومنع تحول المنافسات الانتخابية لمعارك دموية، لكنه من ناحية أخرى، كان متمشياً مع رغبة شخصية عميقة فى اختصار مدة رئاسته، للعودة لمساره المهنى فوق منصة القضاء.
المصريون أحبوا عدلى منصور، لإدارته الحكيمة، واتزانه، وتجنبه الظهور الإعلامى، إلا فى أضيق الحدود، وبخطابات مختصرة، بعد عام من خطب مرسى الطويلة، المرتجلة، بعباراتها المنفلتة، وما تثيره من سخرية عامة، أعاد الهيبة لمقر الحكم بقصر الاتحادية، بعد ما ساده من فوضى وانتهاك لأسواره وبواباته، واستهانة بمقتنياته، لكنه لم يتفاعل مع تيار وطنى مال لترشيحه لرئاسة الجمهورية، بحكم قدرة شخصيته الرصينة على احتواء الأمة فى لحظة عاصفة، وطمأنة المشاعر القلقة بأن كل شىء سيمضى على النحو الذى يقرره الدستور، ثم كان أقوى المرشحين لرئاسة مجلس النواب، باعتباره قادراً على تحقيق توافق وطنى بين القوى السياسية، ولديه خبرة قانونية عريضة تضفى كفاءة ومهابة للأداء على منصة البرلمان، لكنه رفض الترشح، واعتذر حتى عن قبول إدراجه ضمن مرشحى الرئاسة لعضوية المجلس، رغم ما بُذل من محاولات لإقناعه.
تجربة مصر مع الرجل تُجزم بزهده فى المناصب، فلا موضع لاستهدافه، الرئيس منحه قلادة النيل العظمى، فهل نطمع فى رعاية سيادته لمبادرة إنشاء «مؤسسة عدلى منصور للتنمية»، بتمويل حكومى، واكتتاب وطنى وعربى، تشمل مكتبة كبرى، وجوائز باسمه للمبادرات التنموية، وعلوم القانون؟