«ذهب الفراعنة» فى قبضة بدو ومطاريد وادى الحمامات
«ذهب الفراعنة» فى قبضة بدو ومطاريد وادى الحمامات
على حافة فجوة أرضية تمتد إلى ما يقرب من 150 متراً لأسفل، وقف الصبى ذو الستة عشر عاماً، دون خوف، لم يكترث أن تنزلق قدمه فيهوى داخل تلك المغارة العميقة، ولكن جسده كان يرتعد كلما دنا غريب على موضع جلستهم، يتنبه لوقع أى أقدام أو هدير عربات تتحرك بين المدقات الرملية، ويعدو نحو أعلى الصخور ليراقب المكان، فهو عين تلك المجموعة التى يعمل معهم لاستخراج أحجار تلمع بذرات الذهب من مغارة «عطا الله» القابعة بوادى الحمامات بمحافظة البحر الأحمر. وبالفعل استشعر الصبى حسين المقاول (هكذا اختار أن يسمى نفسه)، الخوف بمجرد أن رمق بنظرة خاطفة غرباء قادمين نحوه، حيث لم يألف مظهر «معد التحقيق» المغاير للشكل المعتاد لقاطنى المنطقة، ظناً منه أنه واحد من رجال قوات الأمن الذين يطاردونهم باستمرار، ولكن سرعان ما هدّأ «دليل الرحلة» روعه، حتى عاد أدراجه ليستقر فوق تلك التبة العالية ليراقب الطريق. فى ذلك المكان داخل حضن الجبل، فى وادٍ غير ذى زرع، ولكن ملىء بذهب قابع داخل مغارات ومناجم قديمة قدم حضارة كاملة، يظهر فيها أثر الفراعنة، كانت تلك المناجم مصدراً لتشكيل تماثيلهم الذهبية التى ترافقهم دوماً فى مقابرهم.. هنا مملكة وادى الحمامات بالبحر الأحمر، مجتمع بأكمله يعيش داخل الوادى على استخراج الذهب، من مناجم كان يقطنها الفراعنة قبل آلاف السنين، ومن بعدهم تعاقب على مصر حضارات شتى، الآن تفرض قبائل من البدو سطوتهم عليها، بالإضافة إلى مجموعات من «مطاريد جبال الصعيد» الهاربين من أحكام قضائية.. «الوطن» قضت معهم يوماً كاملاً موثقاً بالصوت والصورة لتكشف عن أسرار العمل، وحلمهم بالتقنين، وطرق تهريب ذلك الذهب المستخرج للسودان ومحال الصاغة فى القاهرة دون حسيب أو رقيب.
«الوطن» تخوض مغامرة فى مملكة الجبل بالبحر الأحمر
على مقهى مبنى من الحجر الجيرى، ومسقوف من القش وجذوع الشجر، يستقر فى وسط الطريق الواصل بين مدينتى القصير بالبحر الأحمر وقفط بقنا، كان اللقاء بدليل تلك الرحلة، بجلبابه الرث، وعمة ضخمة تعلو هامته السمراء، يتصبب عرقاً من وطأة حرارة الشمس، يتحدث بلهجة صعيدية، عمل مع «الدهابة» لسنوات حتى استطاع الوصول لوظيفة حكومية تضمن له حياة كريمة فأقلع عنهم، قرر تقديم المعاونة فى تلك الرحلة شريطة إخفاء هويته والعاملين فى تلك المناجم، بعد أن أخبرهم أن محرر الجريدة باحث جيولوجى، وكانت توجيهاته تنحصر فى استبدال السيارة بأخرى دفع رباعى تستطيع السير فى مدق صخرى شديد الوعورة، وتحمل ما يكفى من مواد غذائية ومياه شرب تسد جوع وعطش المجموعة لبضعة أيام وسط الجبال الشاهقة، إذا تعطلت السيارة وسط ذلك الممر الجبلى الوعر.
- الطريق
مرت الساعات ثقيلة، انتصف النهار، وأخذت السيارة تنهب الأرض بضعة كيلومترات فى طريق «قفط - القصير» حتى ظهرت علامة الكيلو 90، وعندها انحرفت لتأخذ طريقاً صخرياً بين جبال شاهقة الارتفاع، سارت بصعوبة مسافة تقدر بـ40 كيلومتراً وقد تزيد، قطعتها فى ساعة ونصف، وسط طريق متعرج يلتوى ويستوى بين الحين والآخر، لا يقطع ذلك الصفار والجبال ذات الألوان المختلفة الممتدة فى الأفق سوى خضرة حشائش شوكية جافة، وأشجار «السيال الصحراوى»، يسير السائق على هدى حبل متين معلق على أهداب الجبال بمحازاة المدق الوعر، يرشد المارة نحو الطريق.
الدليل الذى اختار لنفسه اسماً مستعاراً «إبراهيم القناوى»، يشهر أصابعه الغليظة نحو الجبال مختلفة الألوان المنتشرة على جانبى الممر الصخرى، يستطيع بخبرته تحديد جبال الذهب من خلال لون صخورها، شديدة الحمرة هى جبال تنضح بعروق الذهب اللامعة، حيث إن ألوان الصخور تلعب دوراً مهماً فى تحديد المعادن التى تحتويها، هكذا تعلم القناوى من السودانيين الذى قطنوا الصحراء الشرقية وأدخلوا مهنة «الدهابة» للمنطقة، وعلّموا أصولها لسكان المنطقة من البدو والصعايدة.
إنتاج مناجم «الحمامات» يضاهى منجم «السكرى» والعمل متوقف فيها منذ الستينات.. والبدو يستخرجون من البئر الواحدة أكثر من 250 جرام ذهب خالص أسبوعياً.. وكانت مصدراً لتصميم القفاز الذهبى للملك «توت عنخ آمون».. والمصريون وضعوا لها أقدم خريطة فى التاريخ موجودة فى متحف تورينو الإيطالى
انقطعت شبكة الهاتف المحمول منذ بداية الطريق، ولم تعد مرة أخرى، تظهر آبار للمياه على فترات، حفرها الدهابة لتوفير المياه، حسبما يروى القناوى بكل فخر، يظهر آثار الفراعنة فى ذلك الممر بين الجبال، مروا من هنا، ترجلوا على تلك الأرض المباركة، كان يسميه القدماء طريق الآلهة، خطت دوابهم، وساقوا مجرميهم للعمل بالسخرة فى تلك المناجم، هكذا تروى نقوش حجرية على ألواح مكتوبة بالهيروغليفية، تظهر بين الحين والآخر داخل المدق الصخرى الوعر (وذلك حسبما يترجمها بدقة متخصص لمحرر الجريدة فيما بعد)
وعلى الجانب الشمالى من الطريق تبدو أكواخ العمال القدماء، غرف من طابق واحد مهدمة وتظهر أيضاً فوق الجبال، وليس آثر الفراعنة وحدهم الذى ظهر فى ذلك، ولكن أيضاً تظهر خطوات الدهابة وعملهم الدؤوب، من حفر التنقيب المنتشرة بين الهضاب والجبال.
- العمل على حافة الخطر
تظهر بوادر العمل فى الوادى، بظهور عربات قديمة متهالكة محملة ببراميل المياه والبنزين، تمر بالطريق، وأخرى مصطفة فى وادٍ فسيح متسع، هنا وادى عطا الله، بداخله يقع منجم عطا الله فى منطقة «حمامة 1»، واحدة من مغارات عدة تنتشر فى الوادى، الجميع يعمل فى صمت، مجموعات تعمل داخل المغارات القديمة والمناجم، وأخرى تبحث وسط الصحراء عن قطع الذهب الخالص بالأجهزة، ومجموعات أخرى تستخدم آليات ومعدات ثقيلة فى البحث عن عروق الذهب.
هنا يطالع الصبى «مقاول» الطريق من فوق التبة العالية، جاء للعمل مع «الدهابة» لكى يقتات لقمة عيش يساعد بها والده الفقير فى توفير نفقات أسرته، بعدما سئم من العمل لسنوات فى مهن لم تكف أسرته قوت يومهم، تعلم فى البداية العمل من خلال جهاز للكشف عن المعادن، شأنه شأن كافة الدهابة من رفاقه، يجوب به الصحراء بحثاً عن قطع الذهب التى تقاذفتها السيول والأمطار، ولكن يجد فى العمل بالمناجم المحفورة سلفاً، التى انتقل للعمل بها مؤخراً أنها أصعب ولكنها مضمونة تؤمن له قوت يومه والمجموعة: «شغل المغاير صعب، الشغل بالأجهزة أسهل بكتير، بس يا تلاقى يا ما تلاقيش.. لكن المغارة فيها دهب من إيام الإنجليز والفراعنة».
«عطا الله» و«أتوت»، و«سمنة» و«فطيرة» و«أم بلد» و«الرابشى»، كلها أسماء لمغارات يتم التنقيب فيها عن الذهب، العمل الأخطر هو الولوج داخل تلك المناجم والمغارات القديمة، التى تتراوح أعماقها لمئات الأمتار، وهو ما نقتفى أثره، وعلى مغارة عطا الله التى تستقر فى أعلى الجبل، تعمل هنا مجموعتان من «الدهابة»، إحداهما جاءت من الصعيد وبالتحديد من محافظة قنا، عدد منهم يحمل على عاتقه أحكاماً قضائية دفعته للهرب فى جبال الصعيد لعشرات السنوات مطارداً من الأمن، يقرون بذلك لمعد التحقيق شريطة إخفاء هويتهم، ويجدون فيما انتهوا إليه من العمل فى التنقيب عن الذهب ملاذاً آمناً للعيش فى سلام، والأخرى جاءت من أسوان والحدود المصرية مع السودان من وادى العلاقى والشلاتين وإدفو.
تظهر فوق الجبل غرفة بُنيت من حجارة الجبل يلقون بأجسادهم تحت جدرانها، لحمايتهم من وطأة حرارة الشمس الحارقة، تستريح فيها المجموعة بعد انتهاء عملها لتترك المساحة للمجموعة الثانية للنزول، تظهر فوهة المنجم جلية وإلى جوارها «ونش» صغير، وبعض أجولة مملوءة بأحجار الكوارتز، وبعض الأوانى والحلل يستخدمها الدهابة فى تحضير الطعام، بخلاف براميل المياه «وبشابير النيران» الملقاة جانباً.
البعض يهرّب الناتج للسودان والآخر يبيعه لتجار الصاغة فى القاهرة.. وسعر الجرام يصل إلى280 جنيهاً.. وممثل شركة الشلاتين المسئولة عن التقنين: اسألوا «الثروة المعدنية» و«البترول».. ورئيس «الهيئة» يرفض الرد
بجسده النحيل، وشعره الكثيف، يبدو أنه قائد إحدى المجموعات، من أسلوبه فى توجيه العمل رغم نفيه لذلك: «كلنا سواسية مفيش كبير على التانى»، حسين العبادى، هكذا اختار أن نسميه، يوجههم بسرعة العمل، ينادى على الصبى الصغير، يطالب بالحرص خلال النزول للمغارة، جاء ومجموعته من أسوان والشلاتين للعمل فى المنطقة منذ خمسة أيام ويتبقى له من أيام العمل داخل الجبل يومان، فهى المدة القصوى لـ«الشَدة»، هكذا يسمون رحلتهم للتنقيب.
«فيه مغاير كتير حوالينا والكل شغال فيها، أى حد ييجى يشتغل ويسترزق»، يقول «العبادى» فهو الشكل التنظيمى للعمل فى المناجم لا يحق لمجموعة أن تمنع الأخرى من العمل ولكن فى نفس الوقت الكل يعرف متى وأين تعمل كل مجموعة، وبناء على ذلك ووفقاً للعرف يتم تقسيم الوقت بينهم بالتناوب: «وأقصى حاجة ممكن مجموعتين يشتغلوا على مغارة واحدة».
يبدأ عمل الدهابة فى المناجم بتدلى العمال بحبال معلقة بونش لداخل قاعة المغارة، يطالبهم «العبادى» بصوته الأجش بالحذر، ويوصيهم بالرفق فى التعامل مع الحبل حتى لا ينقطع من أحدهم فيهوى فى تلك الحفرة التى لا يعرفون لها نهاية، «ما تنزلوش كلكوا مرة واحدة على الحبل، اتنين اتنين، عشان يقدر يستحملكوا»، ويوجه حديثه لمعد التحقيق: «كتير ماتوا مننا وإحنا شغالين»، الونش المعلقة به الأربطة هو صمام الأمان، يحزمه واحد تلو الآخر حول خصره، وبالوصول لقاع المنجم أو أحد أجزائه المنحدرة يميناً أو يساراً يبدأ العمل بكسر قطعة من القاع والخروج بها للسطح.
أفراد من قبيلة «المعازة» يتحصلون على «إتاوات» من «الدهابة» مقابل الحماية.. ويستخدمون طرق المحاجر فى نقل الذهب.. وحفروا آباراً للمياه.. وحبال معلقة على الجبال ترشدهم للطريق.. ويطالبون بتقنين أوضاعهم لبيع الذهب للدولة
يحضر الصبى مطرقة، يعطيها لشاب مفتول العضلات، حيث يجرى ما يسمونه بـ«ششنة»، هى تكسير الحجر بمطرقة داخل وعاء حديدى، ثم يُخرج الحجر المفتت على راحته ويزيل الغبار والأتربة، ويعزل الحبات اللامعة لتحديد نسبة معدن الذهب فى حجر الكوارتز: «لو هتجزى معاهم وهتجيب حق وتكاليف المشقة وفلوس العمال يبدأ الشغل»، يقول «العبادى».
رافق «معد التحقيق» الدهابة داخل المغارة، النزول شاق، الخطوات على أحجار ملساء فى ظلام دامس لا يكسره سوى بعض الكشافات المعلقة فى هامات العمال، لم يكمل الطريق للداخل، ولكن بضعة أمتار كانت كافية لمراقبة العمل عن قرب، التكسير لا يتم بالمطرقة والشاكوش، فهى لا تسعف العاملين بالداخل ولكن من خلال «بشابير نيران»، وهى مواقد تطلق النيران عبر أنبوب حديدى، يخرج منه اللهب، ويستمر فى توجيه النيران تجاه جدران البئر لتكسير عروق الكوارتز التى تحوى الذهب، فى الوقت نفسه يجمع العمال بدأب ما يتساقط من الجدران من حجارة بحرص وتتم تعبئته داخل أجولة وربطها بحبال الونش، لرفعها للخارج.
لا ينتهى العمل عند ذلك ولكن مع انتهاء مدة العمل أو «الشَدة» كما يسمونها، تُنقل تلك الأجولة المملوءة بحجارة الكوارتز لـ«كسارات» منتشرة فى قنا والقصير والشلاتين، لطحن الأحجار ووضعها مفتتة فى أحواض كبيرة من الماء ويتم إلقاء زئبق أبيض عليها يجمع الذهب بعيداً عن الشوائب، قبل تشكيل السبائك الذهبية، يساعدهم فى ذلك، فى بعض الأحيان، خبراء فى تلك المهنة من السودان، وفى أحيان كثيرة ممن أتقن منهم تلك المهمة، حسبما يروى «العبادى».
تتراوح حصيلة «الشَدة» فى الأسبوع بين 200 جرام و250 جراماً، وهو ما لا يجده «العبادى» على قدر المخاطر التى يتعرضون لها: «هنا الكثير يصاب، ويفقد قدمه لو وقع فى المغارة وشغلتنا صعبة، خصوصاً وهو شغال على بشابير النار، ساعات كتير يدوخ ويقع ويموت وحتى مانقدرش نلاقى جثته عشان ندفنه».
«الدهابة» يسيطرون على خريطة «الملك سيتى» و«الثروة المعدنية»: صعب السيطرة على التنقيب العشوائى
- تجار الصاغة وتهريب الذهب
إلى جوار الأجولة المعبأة بالحجارة يجلس حسين سليمان، اسم مستعار لذلك الشاب ذى الـ23 سنة، بدأ فى العمل مع الدهابة منذ عام 2011، انتقل للعمل معهم بعد العمل لسنوات «صنايعى سباك»، يفرد راحته برفق، يلمع داخلها الذهب الخالص، يشرح بلهجة بدوية أن بعد طحن الحجر وتصفيته فى الكسارات يأتى أصحاب محال الذهب من الصاغة فى القاهرة لتحديد العيار وشراء الذهب: «بيضحكوا علينا ويشتروه برخص التراب»، وذلك فى استغلال تام لعدم وجود شكل قانونى لبيع ذلك الذهب المستخرج بطريقة عشوائية.
وعادة ما يتراوح سعر الجرام الخالص بين 230 جنيهاً و280 جنيهاً، رغم أن ذهب المغارات فى وادى الحمامات من أجود أنواع الذهب، ويقدرونه فى السودان بسعر أكبر، مما دفع الكثيرين منهم للإقلاع عن البيع لتجار الصاغة المصريين والبيع للتجار السودانيين المقيمين فى مدينة القصير، والشلاتين، يقول «سليمان».
لم يجد «سليمان» وأقرانه من العاملين فى الدهابة بوادى الحمامات مفراً من تهريب ما يخرجون به للسودان، هناك يكون للذهب عائد أكبر، حيث يصل سعر الجرام إلى280 جنيهاً، خاصة حينما تكون الكمية كبيرة، بعض منهم يسلم السودانيين فى مدينة الشلاتين الحدودية، وهم يتكفلون بتهريبها داخل عربات نقل البضائع: «واحد معين معروف لينا تاجر كبير فى السودان هو اللى بياخد كل الدهب اللى بنجمعه بس بياخده بسعر أفضل من بتوع الصاغة»، والبعض الآخر يسلك طرق التهريب المعروفة بـ«النطة» عبر المدقات الجبلية والصحراوية مع الحدود (سبق لمعد التحقيق زيارتها)، وفى بعض الأحيان تكون الطرق الرسمية عن طريق وادى حلفا وهو الأكثر أماناً، تخبأ داخل عربات نقل الركاب والبضائع، خاصة حين تكون الكمية لا تزيد على نصف كيلو أو كيلو على الأكثر.
بوجه متجهم وجبين مقطب: «نفسنا يفضل خيرنا فى بلدنا»، يقول «سليمان»، فلا يروق للشاب تهريب الذهب للسودان، ولكن حلم الزواج الذى يراوده ويعمل من أجله فى التنقيب العشوائى عن الذهب يدفعه لذلك: «المضطر يركب الصعب»، فهو يجد فى ذلك ملاذه الوحيد: «تهريب الذهب رزق، فيه ناس بتهرب الكيلو بيعمل هناك 280 ألف، فرق 40 ألف عن سعر بتوع الصاغة»، تاجر عربة التهريب يحصل على 10 آلاف جنيه، ولكن فى نفس الوقت النصيب الأكبر يذهب لمن يتكفل بمصاريف الاستخراج والتهريب، وهم من يصفهم بـ«الكبار»، وهم من كبار المشايخ والعمد ممن يتحملون نفقات العمل، ولا يطول العمال إلا الفتات.
«سليمان» الذى عمل بإحدى القرى السياحية بمدينة الجونة لفترة طويلة، ولكنه تركها بعدما توقفت السياحة وتوجه للعمل بالصحراء، لا يحصل من عمله بالذهب إلا قليلاً حسب روايته: «كل يوم برزقه ممكن يديك 1000 جنيه فى الأسبوع وممكن يديك 500 وممكن ما يدكش خالص».
بدأ عمله من البداية على مغارات الجبل فى وادى الحمامات، فلا يقدر هو ومجموعته على العمل بالمعدات الثقيلة التى تزيل جبلاً بأكمله وتظهر أصواتها جلية بالقرب من جلسته: «دول معلمين كبار معاهم فلوس يصرفوا على العمل، وتأجير العربة وتأجير جهاز وأوناش ومعدات ثقيلة، وعمال من 6: 10 عمال»، ويعدد المغارات التى يعمل بها «الدهابة» أيضاً، مغارة بالقرب من وادى الحمامات وهى «أم الروس»، و«البرامية»، و«أتوت».
- المطاريد والملاذ الآمن
أزيز محركات ضخمة، وأوناش تعمل دون هوادة فى الجانب الآخر من الوادى، وإلى جانبها يقف محمود الشاذلى، اسم مستعار، يتابع العمل، هو أحد من يحملون على عاتقهم أحكاماً قضائية، وعاش فى جبال الصعيد مطارداً لسنوات، والمعروفون بـ«المطاريد»، يجد فى مهنة «الدهابة» راحة كبيرة بعد شقاء سنوات، ليس وحده ولكن الكثيرين من أبناء الجبل بالصعيد انتقلوا للعمل هنا، وكل ما يتمنونه هو أن تترك الدولة المساحة وفرصة جديدة لكى: «ناكلها بالحلال»، تتبدل ملامح وجهه حين يتذكر أيام الشقاء والعمل مع قُطاع الطرق: «بدل ما يروحوا يسرقوا ويهاجموا الناس فى الصعيد آديهم فى الجبل بيشتغلوا بعدما ما لقوا لنفسهم لقمة عيش».
أسماء عديدة عددها «الشاذلى» على أصابع يديه، بعضهم وصلت لهم أحكام بالإعدام مرة واثنتين وثلاثاً، يجد أنهم أراحوا قوات الأمن بعدما تركوا جبال الصعيد الجوفاء لجبال أخرى تضج بالذهب، وفرت الأمان للكثيرين ممن ظلوا مطاردين، من قطاع طرق وقتلة وسارقين محترفين.
يعيش الآن الكثير من المطاريد بين ردهات الطرق الجبلية، منهم من يعمل بالحماية فقط لزملائه، ومنهم من يدفع المال للسودانيين والبدو ويشاركهم ما يخرج نظير تكفله بنفقات العمل، ولكن الأكثرية حسب رواية «الشاذلى»، يعملون بأيديهم فى استخراج الذهب: «فتحت باب لقمة عيش لناس كتير كانوا مصدر رعب لأهل بلادنا فى الصعيد».
بضعة أمتار ويبدو أن آلة عملاقة أتمت مهمتها على أكمل وجه فى إزالة هضبة عالية، وبعض العمال يقومون بالعمل على ما خلفته فى موقع الإزالة بـ«الشواكيش» والجواريف، حيث استطاعوا الوصول لأحد العروق المملوءة بالذهب، هنا جانب آخر من العمل بالآلات العملاقة، كان لعبدالحميد خلف، وبعض رفاقه من «المطاريد» نصيب من العمل فيها: «حوالينا مغارات كتير واشتغلت فيها كلها تقريباً فى رحلات سابقة، لكن الشغل بالآلات مكسبه أكبر».
«خلف» اسم مستعار لأحد من جاءوا من الصعيد ليعمل بجوار المغارة بالأوناش، الرجل ليس على عاتقه أحكام قضائية، ولكن يعمل فى كنف المطاريد من أقاربه وجيرانه من الصعيد، اعتمد فى البداية على بعض السودانيين، ممن يتقنون العمل فى استخراج الذهب ويقطنون مدينة القصير، كان لهم ممولاً، ولكن بعد ظهور الذهب واستخراجه سرقوه وفروا هاربين للسودان، ويروى كيف سرقوه: «خربوا بيتى أنا أجيب الجاز والحفار وهما يشتغلوا ويطلّعوا الدهب ويقولوا ما لقينا، وبعدين يطلعوا حتة صغيرة عشان يعشمونى وأنا أكمل صرف»، لم تكن الواقعة الأولى التى تشهد سرقة عمال سودانيين لمواقع الحفر والهرب بها، ولكن رغم ذلك لا يستطيع الدهابة المصريون الاستغناء عنهم: «السودانيين أصل الشغلانة.. وإحنا عندنا قلة خبرة وما نقدرش نستغنى عنهم».
بدأ خلف المهنة «خدناها من تحت» حيث عمل بالأجنة والشاكوش، ولكن سرعان ما أخذ يسعى لإدخال حفار يساعده على العمل فى الوادى، استأجره بخمسة عشر ألفاً، والذى يعمل بداخله منذ أربعة شهور: «إحنا بنتعب عشان نلاقى لقمة العيش، بدل من القعدة على القهاوى».
- مجتمع مملكة الجبل.. والتأمين للمعازة
هنا مجتمع كامل داخل الجبل، فالبعض يقيم كافتيريات يقوم عملها على خدمة العاملين فى التنقيب فى تلك المغارات، وآخرون يوفرون الغذاء والمأكل والمشرب، بالقرب من المدق الرملى يجلس داخل عربته المعطوبة، يظهر من لهجته أنه من أهل الصعيد، محمود أبوالخير، كان صاحب إحدى الكافتيريات داخل الجبل على الطريق يبيع المياه للعاملين فى التنقيب عن الذهب، «كنت ببيع الجركن بعشرة جنيه، بجيب نقلة الميه بـ600 جنيه من قنا».
«السقاة» يمرون على مجموعات العمل على مدار اليوم ليقدموا لهم احتياجاتهم من المياه، وليسوا وحدهم الذين يعملون على خدمة الدهابة ولكن هناك أيضاً أبناء قبيلة المعازة التى تسكن المنطقة، ويعيشون على جمع «الإتاوات» من الدهابة مقابل حمايتهم.
«عرب المعازة» يحكمون الجبل ويسيطرون على مداخل ومخارج الجبل ويفرضون «إتاوات» على الدهابة، ويتقاضون نسبة مما يخرج به الدهابة، ومن يرفض الدفع يكون مصيره الطرد من الجبل، بخلاف ضرورة عدم الوجود بالقرب من أماكن وجودهم، حسب رواية العديد من العاملين فى الدهابة الذين التقتهم «الوطن».
قبيلة «المعازة» القاطنة فى أماكن متفرقة فى صحراء البحر الأحمر، تعيش على رعى الأغنام وتربية الجمال، والسياح، التقتهم «الوطن»، رفضوا فى البداية السماح لمعد التحقيق بالولوج للداخل، ولكن حينما أخبرهم الدليل بأنه باحث جيولوجى يعمل على بحث له علاقة بالذهب، وافقوا ولكن طلبوا مبلغاً مالياً للسماح لمحرر الجريدة بالمرور.
«لا يتركون السلاح» يقولها بوجه متجهم، وعيون زائغة يبدو عليها الغضب، بمجرد ذكر اسم القبيلة أمامه، رضوان الشيخ، هكذا طلب أن نسميه، على استعداد للدخول فى معارك مع المعازة ولكن مضطر لإرضائهم حتى يتركوهم يعملون بعيداً عن أعين الجيش: «إذا انقلبوا علينا هيبلغوا علينا، أو يطردونا باستخدام السلاح اللى معاهم».
«الشيخ» الذى طالما عمل فى جبال إدفو ومرسى علم، يعلم من قبل مجيئه لمغارات وآبار وادى الحمامات، أن المنطقة تحت سيطرة «المعازة»، وأن من يريد العمل بها لا بد له من الدفع لهم، «الناس دول أخطر علينا من الجيش والشرطة بس المضطر يركب الصعب».
كان التغير فى موقف الأمن تجاه الدهابة أكبر سبب يدفعهم للانصياع لمطالب المعازة، يسترجع «الشيخ» فى ذاكرته بداية عمله بالذهب وكانت فى 2011، مع بداية الثورة، وحكم المجلس العسكرى ومن بعده حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى، كان الأمن يمر علينا مراراً ويتركهم يعملون فى أمان ودون أن يعترضهم، ولكن بعد 30 يونيو الأمور انقلبت رأساً على عقب، وبدأت تنتشر الحملات الأمنية التى تبحث عنهم، ولكن على الرغم من ذلك يقول إنهم فى وادى الحمامات فى مأمن، فلا يعرف الطريق إليهم إلا قبيلة المعازة، وهو ما يجعلهم فى أشد الحاجة إليهم لتأمينهم: «خايفين من غدرهم فبندفع وإحنا مضطرين».
- حلم التقنين
«الدهابة» يراودهم دائماً حلم التقنين، كل ما يشغل بالهم هو أن يجدوا مؤسسة تتبع الدولة تستقبل منهم ما يخرجون به من الدهب وتعطيهم حقهم وشقاء الأيام وسط الجبل، لا يجدون غضاضة فى دفع ثمن لذلك حتى لو كانت نسبة تتقاضاها الدولة مقابل السماح لهم بالعمل فى أمان، لا تعجبهم مملكة الجبل ودولته التى تحكمها قواعد وقوانين تفرض عليهم دفع «إتاوات» لبعض أبناء قبيلة المعازة المجاورة لهم، ولا بيع الذهب للسودانيين، ولا لتجارة الصاغة، يحلمون أن تكون لهم مؤسسة على غرار شركة الشلاتين للتعدين التى فتحت الطريق أمام أبناء وادى العلاقى فى أسوان وقبائل العبابدة والبشارية فى الشلاتين بالعمل تحت مظلة الدولة، التى لا يجدون لهم أثراً فى منطقتهم، رغم الوعود الكثيرة والأحاديث المتكررة عن مشروع المثلث الذهبى وتحويل المنطقة لعاصمة تعدينية للبلاد.
- الفراعنة مروا من هنا
بالقرب من القلعة العتيقة التى تتوسط مدينة القصير، يجلس محمد أبوالوفا، بوجهه الأسمر، وملامحه الجنوبية، يعمل مديراً عاماً لآثار البحر الأحمر، وعضو لجنة المثلث الذهبى، يسعى من خلال دراسة أعدها على تلك المناجم القديمة المغلقة لضمها للآثار للحفاظ عليها، فى ظل إهمالها من جانب الهيئات التعدينية، وعلى رأسها وادى الذهب «الحمامات».
يتقن الرجل الجنوبى تاريخ المنطقة، وبخاصة منطقة وادى الحمامات الموجودة بطريق «قفط - القصير»، ويتتبع تاريخها فى عهد الفراعنة، حيث كانت تسمى طريق «روهانا» أى طريق «قدس الأقداس»، تمر الملك حتشبسوت على رأس الرحلات التجارية المقبلة من الأقصر جنوباً وحتى «القصير» للوصول لميناء تصدير المنتجات والبضائع من الجلود والملح والحبوب لبلاد «بوند» والقرن الأفريقى، واستبدالها بالأبقار والأفيال ووسائل المواصلات فى العهود القديمة.
عام 1318 قبل الميلاد وضع الملك سيتى الأول أول وأقدم خريطة فى العالم، وكانت لتلك المنطقة وهى موجودة حالياً بمتحف «تورينو» الإيطالى، وتكشف حسبما يروى «أبوالوفا» أن هناك أكثر من 130 منجم ذهب بالصحراء الشرقية، منها منجم السكرى فى الجنوب، ومنجم أم الفواخير فى وادى الحمامات، وإلى جانبه 25 منجماً آخر موجودة من أيام الفراعنة، ومنها صُنع القفاز الذهبى لـ«توت عنخ أمون».
اُتخذ اسم الوادى من الحمام رمز السلام، ولذلك توجد منحوتات على الصخور مرسوم عليها حمامات تعود لعصر الفراعنة، حيث هناك أكثر من 2350 نقشاً فرعونياً تتحدث، حسبما يترجمها «أبوالوفا» لـ«الوطن»، عن تاريخ المنطقة والرحلات التجارية التى كانت تمر من خلالها وبعثات التعدين.
لم يكن الذهب فقط مقصد الفراعنة، ولكن أيضاً كانوا يرسلون بعثات للتعدين فى تلك المنطقة لاستخراج أحجار «البريشا» و«البخن» والجرانيت وبعض المعادن التى كانت تدخل فى أعمدة المعابد وأغطية التوابيت، بخلاف أن وادى الحمامات كانت منفى للخارجين عن القانون، وكان الفراعنة ينقلونهم لتلك المنطقة ليستخدموهم بالسخرة فى استخراج المعادن، وذلك حسبما تروى النقوش الحجرية المنتشرة بالوادى.
على مقربة من الطريق نجد محطات واستراحات لعمال المحاجر وأصحاب المهام الرسمية، بالإضافة إلى أن إسطبلات الثيران تظهر بوضوح، لا تعود تلك الآثار للعهد الفرعونى فقط، فحسب «أبوالوفا»، لا يجد المكان أهميته فى عهد واحد ولكن لعهود متعددة، وتعود تلك الآثار للعصر البطلمى، اهتموا بتأمين ذلك الطريق ووضعوا محطات وعليها عساكر وقوات من الجيش لتأمين ذلك الطريق، ووضعوا فوق كل جبل «بيوت ناضورجية» وبداخلها عساكر يستخدمون الإشارات الضوئية، وتظهر آثار العلامات وأكوام حجرية على هيئة أبراج مزدوجة، منتشرة بالوادى، كانت مهمتها الإرشاد والمراقبة والحماية والتفتيش.
وفى عصر محمد على نشط التنقيب عن الذهب فى المنطقة بشكل مطرد، حسب «أبوالوفا»، وفى عهد الملك فاروق زار المنطقة بنفسه، ووقّع على سبائك الذهب، ووضع اسمه على نقوش الفراعنة الحجرية، بجانب أن الوادى كان الطريق الأقصر للحجاج فى العهد الإسلامى، وظل كذلك لعهود بعيدة حتى تحولت الميناء فى القصير للتعدين فقط.
- منجم الفواخير.. هنا نصنع ذهب المناجم
على الطريق الرئيسى الواصل بين «قفط - القصير»، وعند الكيلو 90، تظهر لافتة ملطخة بالأتربة «منجم الفواخير»، هنا كان مستقر ما يخرج عن مغارات وادى الحمامات طيلة عشرات السنوات، وحتى توقفه بعد ثورة 23 يوليو، كان المكان الذى «تسنى لمعد التحقيق دخوله فى زيارة سبقت الوصول للمناجم بالوادى» يحوى منجماً لاستخراج الذهب بخلاف مصنع تاريخى يستقبل ما يخرج عن مغارات ومناجم الذهب فى وادى الحمامات، حيث تجمع بعد نقلها إليها، وتأخذ دورتها فى الصنع حتى تتحول إلى سبائك ذهبية، ولكن تحول المصنع الآن إلى مزار لطلبة الكليات التعدينية والمدارس، أشبه بمتحف لا يزوره إلا القلائل بين الحين والآخر، بعد توقفه منذ الخمسينات.
فى الداخل ما زالت تستقر معدات صدئة، ومياه جوفية تملأ المنجم، وتسكن الطيور والحيوانات بين عروق الذهب اللامع داخل أحجار الكوارتز، بقايا بنايات مصممة على الطراز الإنجليزى، وكنيسة مغلقة بالداخل، قضبان سكك حديدية متهالكة، وجبال من بقايا ومخلفات المصنع الرابض بالداخل من حجارة الكوارتز بعد انتقاء ما بها من ذرات الذهب، ومهبط لإقلاع طائرات كانت تقل الذهب نحو إيطاليا وإنجلترا.
أحمد أبوالحسن، رجل خمسينى، بجلبابه الرمادى، ينتمى لمحافظة قنا، فنى تعدين يجلس وحيداً فى غرفته داخل المنجم، يعمل على حمايته من أى هجوم محتمل من الدهابة الذين اعتادوا العمل بجانبه، يقول لـ«الوطن»: الكونت الإنجليزى الجنسية ويدعى «دون دى لى فيزون»، الذى كان يستخرج الذهب من وادى الحمامات فى العهد الملكى، وينقله إلى هنا حيث المصنع، الذى به المرحلة الأخيرة لتصنيع الذهب، وأحواض معالجة كيميائية للأحجار المطحونة، قبل أن يذهب لمرحلة تحويله إلى سبائك الذهب.
شكّل «الكونت» الإنجليزى داخل المنجم أشبه بمدينة كاملة، أسس لنفسه بيتاً صيفياً وبيتاً شتوياً لإقامته وأسرته إقامة كاملة، وأنشأ مخبزاً للعيش ومطعماً للعمال «ميز»، ومستشفى، وكنيسة للصلاة، بخلاف محطة للمياه تستمد من مجموعة من الآبار على بعد 3 كيلومترات من المصنع، حسب أبوالحسن.
استمر العمل فى منجم «الفواخير»، والمغارات المحيطة به فى وادى الحمامات حتى ثورة 23 يوليو 1952، ومع تأميم المصنع والمنجم هرب «الكونت الإنجليزى» بطائرته خارج البلاد، ومن وقتها توقف المنجم عن العمل، وظل مغلقاً هو والمناجم الملحقة به فى وادى الحمامات منذ ذلك الحين، حتى بدأ ظهور ما يسمى بالدهابة وانتشارهم بعد الثورة، الذين يعملون على استخراج الذهب من الوادى بالداخل وبين الحين والآخر يحاولون اقتحام المصنع للسيطرة على المنجم الموجود بالداخل، حسب رواية «أبوالحسن».
يعانى «أبوالحسن» من عمليات تنقيب البدو حول المنجم، ولا يستطيع الرجل فى كثير من الأحيان مواجهة تحرش الدهابة بأرض المنجم، ولكنه فى نفس الوقت يحافظ حتى الآن على المنجم من أى عمليات اقتحام، حيث بمجرد بالشعور بعملهم بالقرب من المنجم والمصنع يبلغ الجيش وقوات الأمن لتوفير الحماية.
فى القاهرة، وعقب مؤتمر عن مستقبل المنطقة التعدينية، التقت «الوطن» الدكتور مصطفى إسماعيل، مدير عام هيئة الثروة المعدنية بالبحر الأحمر، استشارى العلوم الجيولوجية والبيئية، جمع خرائط المنطقة ووضعها أمامه على الطاولة، وأخذ يعود بالذاكرة لعام 1941 حينما بدأ الكونت الإنجليزى «جون دى لى فيزون»، فى التنقيب فى المنطقة، وأسس مصنعاً لاستخلاص الذهب، وهو أقدم مصنع للذهب فى تاريخ المنطقة بأسرها.
يراجع إسماعيل كتاب شيخ الجيولوجيين، محمد سميح عافية، هو أول من عمل مصنعاً بمنجم أم الفواخير ومناجم الذهب بوادى الحمامات فى عصر «الكونت الإنجليزى»، وحسب الكتاب الذى يستند إليه «إسماعيل» فى حديثه، فإن الطن يخرج منه 13 جرام ذهب، وهو ما يعد نسبة كبيرة جداً، وتضاهى ما يخرج عن منجم السكرى، وكان يعتمد على مناجم وادى الحمامات التى تبعد عنها بضعة كيلومترات وهى «سمنة وعطا الله وفطيرة وأم بلد والرابشى»، حيث تحتوى مدينة القصير على 16 منجم ذهب.
«الموجود بها احتياطات أكبر مما يخرج من منجم السكرى» يقول «إسماعيل»، ويشير إلى أن المنطقة أقرب للطريق الواصل بين قفط والقصير، ويوجد بها شبكة آبار مياه، بجانب أنه سبق العمل عليها، ولكن تنقصها الخدمات والمرافق، وهذا الإهمال هو ما يقف عائقاً للتنمية، فلا توجد شبكات محمول ولا كافتيريات ولا استراحات ولا أى خدمات.
- الدولة لا تحرك ساكناً
نفى الرجل المسئول عن منطقة المناجم بالبحر الأحمر بشكل قاطع سيطرة الدهابة على المناجم فى وادى الحمامات، وبصوت خافت يقول: «الناس ديه تشتغل بأجهزة كشف المعادن عن الدهب اللى جرفته السيول إلى الصحراء، وهى نسب صغيرة وليس لهم علاقة بالمناجم»، ولكن بعرض التحقيق عليه، قال: «العمل فى المناجم يحتاج إمكانيات كبيرة ومعدات أشك أنها موجودة مع الدهابة»، واستطرد: «التنقيب العشوائى فى المنطقة منتشر بكثافة، وصعب إيقافه ولكن يمكن تقنينه».
ويبرر «إسماعيل» عدم تشغيل الحكومة المصرية للمنجم بعد رحيل الكونت فى الخمسينات، بأن تكلفة الإنتاج كانت أكبر من العائد فى ظل رخص سعر الذهب، حيث كان الجرام حينها يبلغ سعره 57 صاغاً، ولم يكن ما يخرج عنه يغطى تكاليف التنقيب والصناعة.
«إسماعيل» عضو بمشروع المثلث الذهبى، الذى تسعى الحكومة لتنمية المنطقة من خلاله، والذى انتهى مكتب استشارى إيطالى يسمى «دبلونيا»، مقره فى جنوه، وله مقر فى القاهرة، من إعداد دراسته فى فبراير 2015، ولكن حتى الآن لم تظهر أى بوادر للعمل فى المشروع.
وتقنين فكرة الدهابة من خلال تسليم الذهب للدولة، التى تتكفل بها شركة الشلاتين فى بدايتها وبدأت تتبلور وتأخذ شكلها لتقنين أوضاع العاملين فى التنقيب العشوائى، فى منطقة الشلاتين بالبحر الأحمر ووادى العلاقى بأسوان، ولكن لا يعرف «إسماعيل» موقفها من منطقة وادى الحمامات، بخلاف المشروع المنتظر للمثلث الذهبى وطرح تلك المناجم فى مناقصة لتشغيلها، كلها مشروعات تنتظر المنطقة للاستفادة منها على الشكل الأمثل.
بتحفظ شديد، تحدث اللواء محمد طلخان، ممثل شركة الشلاتين للثروة المعدنية، وهى شركة حكومية تابعة لهيئة الثروة المعدنية، وهى الوحيدة المخول لها السماح بتقنين أوضاع الدهابة، وأوكلت لها منطقة مثلث حلايب وشلاتين بالبحر الأحمر ووادى العلاقى فى أسوان لإصدار تصاريح العمل والتنقيب، وبسؤاله عن منطقة وادى الحمامات وموقف الشركة منها قال بضيق: «هى تبعنا ولا مش تبعنا تقدر تسأل فيه وزارة البترول أو هيئة الثروة المعدنية، وبرضه مش هتلاقى رد عند الهيئة.. لأن اتفاقية المنطقة لا أعدت ولا وقعت ولا أتعمل فيها حاجة.. والأفضل تسأل وزارة البترول»، ولكن الرجل تحدث فى عجالة، فهو يستعد للسفر لمقر عمله بالشلاتين، عاد ليقول بكلمات مقتضبة: «المنطقة ليست تابعة للشركة وما ينفعش أقول لحضرتك أكتر من كده فى الموضوع ده».
حاولت «الوطن» التواصل مع اللواء أحمد عبدالله، محافظ البحر الأحمر، ولكن لم يرد على الاتصالات المتعددة، ولا الرسائل الهاتفية، أرسل له معد التحقيق فحوى التحقيق مع طلب بضرورة الرد ولكنه لم يجب، وعلى الجانب الآخر تهرب عمر طعيمة، رئيس هيئة الثروة المعدنية، من الرد على أسئلة معد التحقيق رغم الكثير من الوعود بموعد قائلاً: «عايز تنشر انشر اعمل اللى انت عايزه».