بين معتد ومعتدى عليه نعيش أعلى تجليات تداول الاعتداء، فالعالم يعانى من ظاهرة التنمر التى تنتشر كوباء بالمدارس فى أغلب بلدان العالم والتى تتسبب أحياناً فى انتحار المعتدى عليه المستضعف، ولأنها ظاهرة لافتة بدأوا فى الانتباه لها ورصدت الدراسات فى بريطانيا أن الآثار السلبية لظاهرة استئساد التلاميذ على بعضهم البعض تلازمهم طوال 40 عاماً، أما الدراسات الفرنسية فأكدت أن تأثيرها مستمر التوغل، وفى الولايات المتحدة تشير الدراسات إلى أن ثمانية من طلاب المدارس الثانوية يغيبون يوماً واحداً فى الأسبوع على الأقل خوفاً من التنمر ومضايقات الزملاء التى تصل أحياناً إلى الضرب والإيذاء والسخرية المستمرة، وفى النرويج حصل ضحايا التنمر على درجات عليا فى مقياس الأفكار الانتحارية ونفس الشىء فى نيوزيلندا، وإذا كنا لم ننتبه بعد إلى هذه الكارثة فى مدارسنا فى المجتمع المصرى بشكل عام يسود فيه التنمر واستئساد الأقوياء أياً كان نوع القوة ومع تنوع وقوة أشكال العنف يجد البعض فى البلطجة الحل وتكون النتيجة فقدان الثقة فى الذات وفى الآخرين وفى المعايير وفى العدل وفى المستقبل، والمعاناة التى يعيشها الضعفاء باختلاف أشكال الضعف تعنى بالضرورة غياب يقظة المجتمع والدولة وترصد كل أشكال البلطجة المعنوية والجسدية، وبدلاً من تنمر المجتمع والدولة للمعتدين نجد أن الفتوات الجدد بين تسلط أو ترهيب أو استئساد أو استقواء يجدون لهم مكاناً تحت اسم الشهرة والنفوذ وتفتح لهم نوافذ وأبواب المال والأعمال والسطوة والثقة ويتباهى أصحاب سوابق الاعتداء والتسلط والاستقواء بأفعالهم التى ترهب الآخرين وتجعلنا نرى وكأن مصر هى هذه الصورة فقط ويواصلون القفز بنجاح وكأن عدوان البلطجة عبادة، وكأن البلطجة عدوى وعادة ونموذج الفتوة الذى قدمه نجيب محفوظ فى أعماله يعاد إنتاجه كل يوم بأشكال جديدة يأتيها الباطل من كل اتجاه وتخاصمها الكفاءة، ولكن للأسف تبقى لها السيادة والنفوذ وكامل الثقة والدعم، وفى الاعتداء لا فرق بين الاستقواء بادعاء العلم والمعرفة أو التسلط باسم الدين أو المتاجرة بشعارات براقة وتسويق الأكاذيب والشائعات وأوهام وتوافه بشر ٍيعيش فى المجتمع فى حالة من الوهم والإحباط واليأس ولا يرى من الوطن إلا مجموعة من السياط موجهة إليه، سياط الفقر وسياط التحقير وسياط اليأس والنتيجة أننا جميعاً أصبحنا نعيش فى هذا الغلاف القاتل من هذه التركيبة، التى تدفع البعض للانتحار المعنوى ونستسلم باعتبار أن هذا الواقع فرض علينا ولا سبيل لنا لتغييره، وبالتالى فأى شىء مختلف وإيجابى لا نراه وأى بارقة أمل نعلن عليها الشك وأى دعوة للاتجاه لطريق خروج نتقاعس عنها، ولكن مصر التى لا نراها بها كنوز من أفكار ومن بشر فإذا كنا نعترف أن الاقتصاد وهو أزمة من الأزمات الكبرى وإذا لاحت فى الأفق حلول فإن جزءاً كبيراً من المشاكل فى طريقها للزوال ورغم كل الواقع المرير فى المحنة الاقتصادية التى تمر على مصر فهناك كنز أفكار ونجاحات واقتصاد بدا بالفعل ولكنه ليس على رادار المجتمع ولا ترصده الدولة، إنه اقتصاد وفكر جديد أصبح موجوداً من خلال آلاف المشروعات الناشئة من أفكار رائعة، أفكار تستطيع المنافسة دولياً فى مجالات عديدة، فهناك آلاف فتحوا شركات وأعمالاً دون الدخول فى النظام العقيم والاعتياد والروتين وأنتجوا ويصدرون وقرروا خلق مجتمعهم ونجاحهم ومعاييرهم للنجاح والحياة بعيداً عن اليأس، فالحلول لا تأتى فى مجتمع مريض ولهذا فقد مهدوا لأنفسهم طريقاً موازياً ومجتمعاً صحيحاً لا نراه تحت ركام البلطجة والزيف والجهل الذى طغى، وهناك ثورة فى الإبداع بها طاقات مبدعة فى الكتابة والشعر والموسيقى والمسرح والتمثيل والإخراج وفى ظل انهيار القيم الذى نعيشه نجد فى المقابل مرحلة فى مصر بها إقبال ورغبة حقيقية من الشباب على العمل الخيرى والتكافلى، وهو سلوك متحضر عكس القيم الأخلاقية المنهارة التى تحاصرنا من كل اتجاه والأزمة الاقتصادية والاجتماعية التى نعيشها جعلت بداخل الشباب والأنقياء من الناس رغبة عنيفة لمد يد المساعدة للأكثر احتياجاً، وهناك أعمال إنسانية وإبداعية لا نراها تؤكد أن لدينا مواد خام وثروات فى باطن المجتمع لا نعرفها وليست منظمة وتظل متناثرة، بينما نعيش تحت ركام اليأس، مصر التى نراها ترفع شعار أنا أعتدى جهلاً وفساداً واستئساداً واستقواء إذن أنا موجود، ومصر التى لا نعرفها ترفع شعار أنا أبدع، أنا أعطى، أنا أعرف، أنا متحضر، إذن أنا موجود، فمتى تكون لدينا إرادة لتشييع مصر التى نراها وميلاد مصر الذى لا نراه؟