لا أعرف مغزى أن يُنقل حوار بين رئيس الجمهورية وقيادات حزبية على الهواء مباشرة فى قضية تمس الأمن القومى، ومن المتصور أن يُقال فيه معلومات لا يجب إتاحتها للجمهور أو أن تتردد فيه آراء لا يصح أن تقال خارج الغرف المغلقة. قد لا يكون مستغرباً بث حوار مشابه حول «الانتخابات» أو «الدستور» على الهواء بحسبان ذلك جزءاً من جدل عام، والشفافية فيه مطلوبة، ولكن أن تصبح مسائل لصيقة بالأمن القومى على الهواء مباشرة فهذا أمر يستحق التوقف، ويكشف عن أن القائمين على الحوار يرون أهمية فى شكل «الحوار» دون أن يكون للمضمون ذات الأهمية، طالما أن ما يثار داخله أمر عام، وارد الحدوث فى أى منتدى أو ندوة عادية.
يفتح ذلك المجال أمام الحديث عن الحوار الوطنى «الحقيقى» الذى ينبغى أن يحدث على أرض مصر الآن بعد أن تكالبت عليها المشاكل الداخلية والخارجية على نحو ينخر فى عظام الدولة، ويقوض كيانها.
1- إعادة النظر فى تعقيدات وأخطاء المرحلة السابقة بما يستتبع تعديل الدستور، ووضع ضمانات لانتخابات برلمانية حرة ونزيهة، والدعوة لإجراء هذه الانتخابات فى غضون بضعة أشهر حتى تستقيم الحياة السياسية. ويقتضى ذلك ضمان حياد أجهزة ومؤسسات الدولة بما فى ذلك تعيين نائب عام جديد، والتوقف عن محاولات التحرش الدائمة بين سلطات ومؤسسات الدولة.
2- الاعتماد على الكفاءات العلمية والمهنية فى تحديد المشكلات، ودراستها، ووضع حلول لها فى صورة برنامج وطنى تلتزم به الحكومة الحالية، والحكومات القادمة أياً كان لونها السياسى طالما نتناول سياسات عامة فى قضايا فنية اقتصادية واجتماعية.
3- إدارة حوار نقدى حقيقى حول إعادة بناء الدولة، ليس وفق تصورات جماعة سياسية بعينها أو تيار سياسى بعينه، ولكن انطلاقاً من رؤية أرحب لبناء دولة التنمية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.
هذا هو الحوار الذى تتطلبه مصر الذى يشارك فيه كل أبنائها دون استقطاب.
مصر الكيان تتعرض لمخاطر حقيقية، لا يكفى معها ترديد أسطوانة «النظام السابق»، أو البحث عن أى شماعة نعلق عليها الأخطاء. فى حديثه عن «بناء الدولة» يتحدث «فرانسيس فوكوياما» بمزيد من الغزل عن الدولة، ودورها، ويتناول أهمية «النزاهة التنظيمية» فى بنائها، ويرى أن اليابان لم تبن بعد الحرب العالمية الثانية بالمال فقط، ولكن بالقيادات التى تولت أمر المؤسسات العامة حيث وضعت الخطط، وحفزت العاملين، ونشرت ثقافة إيجابية، وأطلقت الطاقات، وجعلت المجتمع بأسره يسير فى منظومة واحدة. الوضوح فى الرؤية والأساليب هو ملمح رئيسى للتضامن، والثقة فى النظام هو الكلمة السرية فى نجاح أى تجربة تنموية جادة.
هذا هو الحوار الحقيقى، حوار البناء والتنمية، وليس صورة الحوار الذى يجمع أطرافاً متنافرة على طاولة واحدة لتبادل «الحكى» بلغة اللبنانيين.