بعد مضى ما يقرب من ثلاث سنوات من فترة الرئاسة الأولى للرئيس السيسى كانت مصر خلالها ولا تزال ساحة للإرهاب الإخوانى والداعشى وفصائل التكفيريين من كل تيارات الفكر الإرهابى، وقد اشتدت فى ذات الفترة وطأة الفساد وانتشر فى جميع أجهزة الدولة، فى ذات الوقت الذى تأكد فيه فشل حكومات ما بعد 25 يناير 2011 فى تحقيق أهداف ثورتى يناير/يونيو أو التعامل بأساليب علمية مع مشكلات مصر المتراكمة منذ سنين مبارك وما قبله وما بعده، فضلاً عن مشاكل ضعف التخطيط وعدم تحديد الأولويات الصحيحة فى مشاريع غير مؤكدة الجدوى، وقد ازداد التجاء الحكومة الحالية إلى الاقتراض بمعدلات غير مسبوقة وانصاعت إلى شروط صندوق النقد الدولى وأهمها تحرير أسعار صرف العملات الأجنبية وما ترتب على ذلك من اشتعال أسعار الدولار ومن ثم أسعار كافة السلع والخدمات وتخفيض قيمة العملة الوطنية، وذلك فى غيبة تامة عن تفعيل الدستور وغياب رقابة مجلس النواب عن أداء الحكومة!
تلك الأمور كلها قد أسهمت فى تخفيض الشعبية غير المسبوقة التى كانت للرئيس وقت أن كان المصريون يلحون عليه أن يعلن ترشحه للرئاسة وقد انتخبوه بأغلبية ساحقة، وتقبلوا حزمة القرارات الصعبة التى بدأ بها عهده!!! والآن تشتعل الساحة المصرية بالعديد من القضايا والتحديات، أهمها الإرهاب والفساد، وتردى الخدمات العامة وسوء الأحوال الاقتصادية والمجتمعية للغالبية العظمى من المصريين، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة، كل ذلك فى ظل غياب تام يصل إلى حد الموات للأحزاب والقوى السياسية، وبدلاً من أن تنتبه الدولة إلى حتمية إعادة ترتيب البيت المصرى على أسس جديدة تهيئ للانتقال إلى حالة الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، نلحظ ضيقاً بالهامش المحدود من الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، رغم أن رؤية الرئيس السيسى لمستقبل مصر التى أعلنها أثناء حملته الانتخابية للرئاسة كانت قاطعة وحاسمة فى انحيازه للديمقراطية، حين أكد أن من مبادئ رؤيته «تحقيق تحول ديمقراطى على أرض الواقع يمثل ضماناً لمستقبل مشرق، والتنفيذ الكامل والفورى لكافة الالتزامات التى وردت بمختلف أبواب الدستور خاصة سيادة القانون، وضمان الحقوق والحريات، والقضاء على الفساد، وتمكين الشباب والمرأة»! أو حين قال: «إن معظم قضايا مستقبلنا تحتاج إلى بحث جديد وإعادة نظر بسبب مقتضيات مستجدة وطارئة طالت كل شىء من وسائل الإنتاج، إلى ضرورات الأمن القومى والسلامة الوطنية، وهو المستقبل الذى يحتاج إلى حوار جاد وعميق يتحتم أن يشارك فيه وحوله كل القادرين من أبناء مصر، سواء على أرضها أو خارجها: رجالاً ونساءً وشباباً من كل الاتجاهات بلا استثناء أو إقصاء أو استبعاد أو تهميش أو تمييز، فالوطن للجميع»، وفى خضم هذا الانشغال بمشاكل الفترة الحالية الصعبة، فإن اهتماماً موازياً يجب أن ينصرف إلى المستقبل لرسم صورة مصر كما نريدها، وبناء التوافق المجتمعى حول طرق تحقيق تلك الصورة وضمان عدم الانحراف عنها، ومن أجل الإعداد للمستقبل يصبح ضرورياً قراءة الواقع وتحليل العوامل الفاعلة فيه، التى أوصلت الحالة المصرية إلى ما هى عليه الآن، وتوضح تلك القراءة أنه من غير الممكن ولا من المقبول استمرار الأحوال على ما هى عليه بكل ما وصلت إليه من التردى والتدهور الوطنى وتفاقم درجة عدم الرضا والسخط بين أغلبية المواطنين الذين لا يحصلون على نصيبهم العادل من ثروة الوطن والدخل الناتج عن استثمارها نتيجة سياسات وممارسات تحاكى وتكرر ما كان يسود فى العهد البائد على مدى ثلاثة عقود ماضية!!! إن دراسة الواقع المصرى ضرورة للبحث عن سبل جديدة ومنطلقات مبتكرة لتطوير الحالة المصرية لتحقيق التنمية المستدامة القائمة على العلم واكتشاف الموارد واستثمار الفرص وإقامة العدالة الاجتماعية وضمان الأمن والسلام الاجتماعى، ومن المهم أن يتوافق الباحثون عن مستقبل الوطن ورسم خارطة الطريق للوصول به إلى غايات ثورتى الشعب من القضاء على ما أوصلنا إليه حكم مبارك طوال سنوات ثلاثين، حيث لم تحقق جهود التنمية والإصلاح الاقتصادى خلال العقود الثلاثة الأخيرة نتائج ترتفع إلى مستوى التطلعات لرفع مستويات المعيشة وإنجاز نقلة ملحوظة فى القدرات الإنتاجية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وما استجد من مشكلات وصور للمعاناة الشعبية طوال السنوات من 2011 حتى الآن 2017!!! إن مصر لا تزال تعانى من مشكلات أساسية وتقليدية تحررت منها كثير من الدول النامية التى صاحبتنا أو تبعتنا فى مسيرة التنمية، وتدور تلك المشكلات أساساً حول الثلاثى الشهير، الفقر، الجهل، والمرض، وفى ضوء هذا الواقع يتطلب النهوض بالوطن والانطلاق به إلى المستقبل المأمول استثمار العلم الحديث والتقنيات العالية ومواكبة المستويات المتعالية من الإبداع العلمى والتقنى وما تحققه للمجتمعات المتقدمة من مستويات معيشية وأوضاع اجتماعية وثقافية متطورة لتحقيق إنجازات غير عادية فى أسرع وقت يتماشى مع طبيعة عصر العلم والتقنية الذى نعيشه، ويوضح التاريخ فى مصر وغيرها من دول العالم أن السبيل الأكثر احتمالاً وفاعلية لتحقيق التقدم والتنمية المستدامة وحل مشكلات الفساد والإرهاب.. هو طريق الديمقراطية!
إن الانتقال إلى المستقبل يحتم ضرورة إحداث نقلة نوعية فى البناء المجتمعى وعناصر الحياة وأدواتها ومستويات الرفاهة العامة للجيل الحالى والأجيال المقبلة، وابتكار نموذج تنموى غير تقليدى يهيئ لانطلاقة تنموية مستدامة تستثمر طاقات الوطن والمواطنين فى إطار ديمقراطى يحقق تكافؤ الفرص والعدالة فى توزيع الدخل بين المواطنين.
إن بناء مصر المستقبل لا بد أن يتأسس على استثمار كل المتاح من فرص لم تكن على عهد النظامين السابقين محلاً للاستثمار والتنمية بقدر ما كانت مجالاً للنهب المنظم والتبديد غير العاقل، إن الله قد حبا مصر بنعم ومزايا هى مواردها الحقيقية للتنمية والتقدم، تتمثل فى مورد بشرى ضخم يكاد يقترب من مائة مليون إنسان، يضمهم هيكل بشرى شاب قادر على العمل والعطاء لو أحسن تعليمه وتدريبه والمحافظة على صحته، ولن يتأتى استثمار موارد مصر إلا فى إطار تعميق الممارسة الديمقراطية الواعية ليشارك المواطنون من خلالها فى إعادة صياغة المجتمع ورفع مستوى الحياة وضمان مستقبل أفضل للأجيال المقبلة، إن الخروج من الحالة المصرية الراهنة لا بد أن يرتكز على قيم الديمقراطية التى تحرر الإنسان المصرى وتتيح له فرص انطلاق إلى آفاق الحرية والابتكار والإبداع فى مجالات الحياة.
إن المصرى يسعى إلى التمتع بحرياته وحقوقه فى ظل دستور ديمقراطى يؤكد سيادة القانون ويحمى استقلال القضاء ويمنع التغول على وسائل الإعلام الوطنية والمستقلة، كما يسعى المصريون جميعاً، مسلمين وأقباطاً، إلى ضمان العيش فى مجتمع المواطنة وقيم الوطنية المصرية الصادقة، إن المصريين فى مجتمع الديمقراطية قادرون على التعامل بإيجابية مع الظروف المحلية والإقليمية والعالمية وما ينشأ عنها من مخاطر ومهددات، كما هم قادرون على اكتشاف الفرص القائمة، وتحديد مواطن القوة والضعف فى البناء الوطنى، ومن ثم التعامل الإيجابى من أجل إعادة بناء الوطن وتأكيد مسيرته إلى مستقبل أفضل، إن المصريين قادرون على صنع المعجزات إذا هم تحرروا من قيود الحكم القائم على المركزية الشديدة المعتمد بالدرجة الأولى على منطق «الأمن» والمتسلح بحالة الطوارئ، الذى قد يضيق بأجواء الحرية وسيادة القانون ويعتبرها من المهددات للأمن الوطنى!!!
وإلى المقال المقبل بإذن الله.