لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية فى مصر الآن فى ظل هذا الغل القابع فى عيون التابعين للإخوان أو المتعاطفين معهم أو المنتفعين من وجودهم، بعد أن رأوا بأعينهم كيف انهار صرحهم هذا أمام جموع الشعب التى خرجت تردد كلمة «ارحل» لكل رموز هذا النظام المتمسح بالإسلام والمسىء له، فعن أى مصالحة نتحدث وهم يحشدون كل ما يمكنهم من بشر فى ربوع مصر كلها لترويع الآمنين وتهديدهم وافتعال الأزمات معهم ليسقط العشرات قتلى، بينما هناك مئات المصابين؟ عن أى مصالحة نتحدث وقوات الجيش والشرطة باتت على أهبة الاستعداد الدائم لمواجهة تلك التجمعات أو صد هجماتها على قواعد الأمن ونقاطه إلى حد مهاجمة مطار العريش وقتل أحد الجنود وتهديد الجيش وقائده والشعب بالقتل على يد رجال استحبوا وصف أنفسهم بطالبان؟ ليس هذا فحسب، بل عن أى مصالحة نتحدث ونطالب بها الطرف الآخر من غير المنتمين للإخوان من بقية الشعب المصرى، الذى عانى على مدى عام كامل من أفعال ذلك الفصيل الذى تفانى فى تقسيم المواطنين وتصنيفهم، وأمعن فى إقصاء وتشويه من لا ينتمى له، مردداً أكاذيب لا حصر لها عن مكافحة الفساد ومواجهة المؤامرات والتصدى للفلول، بشكل فج ومثير للغثيان؟ وهكذا يبدو من المستحيل تطبيق المصالحة الوطنية، إن كنا نعنى المعنى الدقيق للكلمة والهدف منها الآن فى مصر، فالمصالحة تحتاج لمصارحة ومكاشفة وشفافية فى طرح الأمور وتناولها عبر الاعتراف بالأخطاء والإقرار بها، ثم الاعتذار عنها، والتعهد بعدم تكرارها والاندماج فى نسيج المجتمع، فهل يقبل الإخوان ومَن يتعاطفون معهم أو ينتفعون من ورائهم ذلك؟ لا أظن وإن فعلوا فسيفعلونها على مضض اتباعاً لمبدأ التُقية الذى يجيدون التعامل به وفقاً لمصالحهم، إذن لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية فى تلك الأيام لأن الأرض ليست مهيأة له، ولنا فى جنوب أفريقيا مثل وقدوة، فنيلسون مانديلا لم يدع للجنة المصارحة والمصالحة عند انتخابه رئيساً للبلاد عام 1994، ولكن بعد عامين من حكمه حينما لاحت فى الأفق ملامح الاستقرار السياسى والمجتمعى والاقتصادى، تاركاً رئاستها للقس «ديزموند توتو» الذى قرر أن تكون جلسات تلك اللجنة علانية على شاشات التليفزيون الحكومى ليراها الجميع. معتمداً على حضور ومشاركة أى مذنب فى حق المجتمع أو المواطنين حتى لو كان من بين السود، ليعترف كل مواطن بما أذنب بصراحة تامة ويعتذر عما بدر منه أمام الجميع وله قبول اعتذاره، إلا فى قضايا الدم حيث تركت للقضاء، أما التعويض فلم يكن كبيراً حيث قدر بنحو 30 ألف ريند، وهو ما يعادل 3000 دولار أمريكى، تولت الحكومة سداده للجميع، وهكذا نجحت لجنة المصارحة والمصالحة فى الاعتراف بذنوب الماضى وفتح صفحة جديدة على طريق المستقبل تحت مظلة القانون والعدالة. وهكذا حالنا حتى لا نقع فى فخ ترديد الشعارات ونصحو على احتراق الفكرة وذبولها لعدم تبنيها فى الوقت المناسب، ولكن يمكننا من اليوم العمل على تأهيل هؤلاء المؤيدين أو المنتمين أو المتعاطفين مع الإخوان وتيار الإسلام السياسى لإعادة دمجهم فى المجتمع عبر جلسات استماع طويلة للشباب يفرغون فيها كل ما لديهم من أفكار عاشوا بها وصدقوها بل وقاتلوا من أجلها، ثم نبدأ معهم التحاور حولها وتفنيدها لهم عبر متخصصين فى إعادة التأهيل ومشاركتهم أنشطة مجتمعية متعددة يندمجون من خلالها فى المجتمع، إنها اللحظة الفارقة التى علينا التكاتف فيها جميعاً إن أردنا إعادة كل هؤلاء لقلب الوطن.