كل عام وأنتم بخير..
فى السطور التالية سأسعى إلى إلقاء الضوء على سبعة جوانب فى صناعة الإعلام فى مصر، عبر تقييمات مكثفة ومختصرة، عسى أن تسنح فرصة قريبة لمزيد من التقصى والتوضيح.
أولاً: دراما مُسرفة.. وفاقدة الاتجاه
لا يمكن وصف الحالة الدرامية التى هيمنت على شهر رمضان المنصرم إلا بكونها حالة «إسراف». لقد كان هناك إسراف فى عدد المسلسلات، كما كان هناك إسراف فى نفقات الإنتاج، لكن تلك الدراما كانت فاقدة الاتجاه.
فى كل دولة رشيدة يتم تسخير الأعمال السينمائية والدرامية ومعظم الفنون من أجل تحقيق أهداف تتصل ببناء القوة الناعمة للدولة، التى تصبح لاحقاً جزءاً من قوتها الشاملة. نحن فى مصر كنا نفعل ذلك قبل عقود، لكننا الآن نترك السوق للعرض والطلب، والنتيجة أن مجمل الأعمال الدرامية التى نعرضها لا تعود بفائدة على الصورة الذهنية العمومية، ولا تنصر القيم المتوخاة، ولا تعالج المشكلات الملحة، ولا تخدم التوجهات المطلوبة.
إنها صناعة بلا عقل، يمكن أن تمتعنا قليلاً، أو تلهينا كثيراً، ويمكن أن تستعيد نفقاتها، لكنها لا تترك أثراً مستداماً، ولا تنتظم فى سياق يخدم أهدافاً عامة.
ثانياً: الهزل يتصدر
رغم هشاشة صناعة استطلاعات الرأى فى مصر، وفقدان صناعة الإعلام أى قدرة على التحقق من الانتشار بشكل دقيق وعادل، فإن ما رشح حتى الآن بخصوص أنماط المشاهدة يفيد أن «الهزل يتصدر».
وببساطة شديدة، فإن الاستطلاعات الموجودة بالفعل، ومعدلات المشاهدة على «يوتيوب»، وحصص الإعلانات، وأنماط التفاعل على «السوشيال ميديا»، كلها تشير إلى أن برامج المقالب تصدرت قائمة المشاهدة فى شهر رمضان الماضى.
وفى المرتبة التالية لبرامج المقالب الهزلية، جاءت مباشرة بعض الأعمال الدرامية الهزلية أيضاً.
يشير هذا بوضوح إلى أن الجمهور ما زال يبحث عن «الكوميديا» والمقاربة الهزلية، وأن الأعمال الدرامية الجادة، والبرامج الرصينة لا تجد طريقها إلى الصدارة.
ثالثاً: «السوشيال ميديا» ساحة معارك
تحولت «السوشيال ميديا» إلى ساحة معارك بامتياز، تشير المتابعة الدقيقة للمحتوى الذى يُبث عبر هذه الوسائط إلى أن «السوشيال ميديا» تنحو باتجاه التطرف واللغة البذيئة والصدام والتخوين والتحريض على العنف.
بموازاة المعركة الكبيرة بين أنصار قطر وأنصار دول العزل الأربع (مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين)، ما زالت تفاعلات قضية تيران وصنافير تؤثر فى المضامين وتتحكم فى «الهاشتاجات».
وبسبب حساسية الموضوعين، وتوافر أسباب الصراع فيهما، وزيادة عدد «اللجان الإلكترونية» المسخرة للخوض فيهما، فإن المضامين التى يجرى بثها باتت تتحول إلى عوامل صدام وشتائم واتهامات.
رابعاً: «الجزيرة» عبرة.. وليست قدوة
لقد انتقدنا قناة «الجزيرة» كثيراً، لأنها لم تكن سوى أداة دعاية للحكومة القطرية. انتقدناها لأنها شوهت الحقائق، وفبركت الوقائع، واختلقت مواضيع، وحرضت على الإرهاب، وأثارت الكراهية، وروجت للعنف.
انتقدنا قناة «الجزيرة» لأنها رهنت نفسها غطاء إعلامياً وسياسياً وتسويقياً لفصيل سياسى هو «الإخوان»، ولأنها وظفت طاقتها ومواردها وسمعتها لخدمة أغراض هذا الفصيل وخوض معاركه.
انتقدنا «الجزيرة» كثيراً، لذلك لا يجب أن نفعل ما فعلته، ولا يجب أن نرتكب نفس الأخطاء التى ارتكبتها، ولا يجب أن نكرر مأساتها.
«الجزيرة» اليوم فقدت اعتبارها ومكانتها وتاريخها ومصداقيتها، وبالتالى لم تعد قادرة على تبرير وجودها، أى لم تعد قادرة على التأثير فى الناس كما كانت فى البدايات، وقبل أن يتم كشف سرها.
ما تفعله «الجزيرة» راحت قنوات مصرية وعربية تفعله بامتياز، بل ربما بدرجة أكبر من الفجاجة والوضوح وعدم مراعاة القواعد المهنية.
إن الحروب لا تُخاض على الشاشات، ولا يجب أن تكون وسائل الإعلام قنابل ورصاصات فى المعارك المندلعة بين الدول، لأن ذلك يفقدها أدوارها الحقيقية ويفقدها قدرها وقيمتها.
إذا كانت «الجزيرة» أخطأت فاجعلوا منها «عبرة»، ولا تتخذوها «قدوة».
خامساً: الصوت الواحد.. أخرس
حين يتم تأميم المجال الإعلامى التقليدى فى أى مجتمع من المجتمعات المعاصرة، وتصبح الرسالة المرسلة واحدة، والصوت المتاح واحداً، فإن أحداً لا يسمع.
الصوت الواحد أخرس فى نمطنا الاتصالى المعاصر، لأن أحداً لن يركن له.
سيذهب الجمهور إلى وسائط أخرى ومصادر أخرى لكى يتعرف على الأصوات المختلفة، ولن يرضى أبداً بأن يحتكر أحد فضاءه فى عصر السماوات المفتوحة.
الحفاظ على التعدد والتنوع فى ظل منظومة إعلامية رشيدة خاضعة للتقييم أفضل بكثير من تكريس الاحتكار وتغليب صوت واحد، لن يلبث أن يفقد قدرته على الوصول إلى آذان الجمهور.
سادساً: «لخبطة الإعلام»
كنا نريد مجالس وهيئات لتنظيم الإعلام، فلم نحصل سوى على سياسات وقرارات لـ«لخبطة الإعلام».
لا يجب أن نضع العربة أمام الحصان فى عملية تنظيم الإعلام، لذلك علينا أن نبدأ بإرساء المعايير والأكواد والقواعد، ثم نشرع فى المحاسبة وتوقيع العقوبات.
لا عقوبة بغير نص، ولا نص يرسى عقوبة من دون معيار متفق عليه ومُعلن بوضوح، وبالتالى، فإن الهيئات الإعلامية الجديدة مطالبة بفهم نطاق صلاحياتها، وتشخيص معالم مهمتها، والبدء فوراً بإرساء القواعد والمعايير والأكواد والنظم، قبل الشروع فى إنزال عقوبات أو اتخاذ قرارات.
سابعاً: مصر بلا صوت إعلامى خارجى
بعض الدول تمتلك أدوات إعلامية خارجية فعالة، وبعضها يكتفى بمخاطبة الداخل.
سيمكن للولايات المتحدة أن تستخدم ترسانة متكاملة من التعبيرات الإعلامية النافذة فى ترويج رسالة أو بث مضمون ما، يوضح سياساتها أو يدعم مواقفها، بسهولة شديدة، لأنها ببساطة استثمرت على مدى عقود طويلة فى بناء تلك المنظومة الإعلامية الدولية، التى تتضمن عشرات الأسماء اللامعة والشهيرة.
بريطانيا يمكنها أن تفعل الشىء نفسه، وكذلك فرنسا، وغيرها من القوى الكبرى على الساحة العالمية.
إقليمياً، أصبحنا ندرك الآن لماذا استثمرت قطر فى قناة «الجزيرة»، ولماذا أنفقت مئات الملايين على تلك الشبكة حتى أصبحت قادرة على الوصول إلى أبعد نقطة فى العالم العربى عبر أدواتها الناطقة بالعربية، وإلى أبعد نقطة فى العالم الغربى عبر أدواتها الناطقة بالإنجليزية، فضلاً عن اللغات الأخرى.
أصبحنا ندرك لماذا استثمرت قطر فى تطوير مشروعات إعلامية مثل «العربى الجديد»، أو «هفنجتون بوست العربية»، أو ضخت الأموال فى مشروعات أخرى.
أصبحنا ندرك لماذا استثمرت قطر فى تطوير القمر الاصطناعى «سهيل»، ولماذا أطلقته بشروط ومزايا تنافسية، ولماذا ضخت الأموال الضخمة للحصول على حقوق بث المسابقات الرياضية.
لم تكن قطر وحدها فى هذا المضمار إقليمياً، ولكن السعودية كانت قد سبقتها بالفعل، فطورت فضائيات، وصحفاً، ومواقع إلكترونية.
الإمارات جاءت متأخرة بعض الشىء فى هذا السباق، لكنها مع ذلك استطاعت أن تطور منصات مميزة، وأن تحصل على حصة مناسبة فى سوق مكتظة وفى أجواء منافسة شرسة.
لكن مصر لم تكن هناك، فظلت فى تلك المعركة الإقليمية بلا صوت يُسمع فى الإقليم والعالم، مكتفية بمخاطبة نفسها.