مرارة المصريين «اتفقعت» وأعصابهم «شاطت». وفود من أوروبا وأمريكا والخليج. رحلات مكوكية من زنزانة إلى اعتصام إلى فندق، وكأن مصر أصبحت «حائط مبكى». شائعات وأكاذيب وأحاديث مرسلة عن صفقات مشبوهة، ومستحيلة، بين جماعة إرهابية خائنة، ودولة تساوى فى القدم والعراقة أكثر من خمسة عشر ضعف عمر الولايات المتحدة الأمريكية. شتائم وتراشق وردح وتشويه رموز سياسية على صفحات الصحف وفى برامج التوك شو ومواقع التواصل، وفى غضون ذلك تتواصل مسيرات الإرهاب وقطع الطرق وترويع المواطنين وتكديس الأسلحة فى بؤرتى رابعة والنهضة، ثم ينتهى هذا الماراثون الدبلوماسى بتصريح قذر لأحد كلاب الإدارة الأمريكية «جون ماكين»: «ما حدث فى 30 يونيو كان انقلاباً ولا بد من العفو عن كل المعتقلين السياسيين».
ما الذى تنتظره يا سيادة الفريق؟ ما الذى تخشاه وفى ظهرك ثمانون مليون مصرى.. أنزلت أكثر من عشرين مليوناً منهم إلى الشوارع والميادين بإشارة من إصبعك؟. ما الذى سيفعله الغرب وأمريكا إذا فعلتها وطهرت مصر من هذه الجماعة الفاشية، الخائنة؟ أظنك تفهم جيداً -وكل المصريين يفهمون الآن- أن كل الذين هرولوا إلى مصر لا يريدون لها سلاماً أو مصالحة أو مساراً ديمقراطياً يستوعب الجميع.. بل تقوده جماعتهم. أظنك تفهم -ونحن أيضاً- أنهم رؤوس مؤامرة كونية، وأن الإخوان أداتها، وأن كل ما فى الأمر هو إتاحة الوقت لهذه الجماعة لتفيق من «رزعة» 30 يونيو وتستكمل حشدها واستعدادها لمعركة حياة أو موت.
أنت لست أقل من جمال عبدالناصر يا سيادة الفريق.. شئت أم أبيت، وأظنك تفهم الآن أن المؤامرة تعيد إنتاج نفسها: أمريكا بكل جبروتها ومراوغاتها وألاعيبها وتحالفاتها ووساخة أغراضها، والغرب بكل تبعيته وانتهازيته وديمقراطيته الزائفة، مضافاً إليهما جيوب إقليمية تافهة مثل قطر وتركيا. أظنك تعرف أن العداء لـ«فكرة الوطن» من ثوابت الإخوان، وأن «الجماعة» بالنسبة لهم فوق «الدولة»، وأن ما يفعلونه الآن من ترويع وتخريب وإشاعة فوضى.. ليس بدعة، بل هى مكون أصيل فى عقيدتهم السياسية، وأظنك تعرف -أكثر منا جميعاً- أن هناك الآن ما يسمى بـ«الجيل الرابع للحروب»، وهى بدعة أمريكية خالصة، أقرها بروفيسور يدعى «ماكس مانوارنج»، يعمل أستاذاً فى معهد الدراسات الاستراتيجية فى الجيش الأمريكى، وتضمن للولايات المتحدة ألا تنهزم فى معركة مع خصم ضعيف، وقد حدد «مانوارنج» أهداف هذا النوع من الحروب فى إنهاك وتآكل إرادة الدولة المستهدفة.. ببطء وثبات فى الوقت نفسه، وقال إن أسلحة هذه «الحرب الناعمة» هى قوة المال والقدرات العقلية، وهذا أهون وأقل تكلفة، لأن من سينفذها مواطنون من الدولة المستهدفة.. يتولون زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى، ومن ثم إضعاف قدرة الدولة على التحكم فى الأوضاع وفقدان سيطرتها على أجزاء من أرضها.. أليس هذا ما يحدث فى مصر الآن؟!.
ما الذى سيفعله الغرب وأمريكا يا سيادة الفريق؟ ما الذى سيحدث لمصر أسوأ مما حدث لها طوال تاريخها: استعمار يسلم استعماراً، وحرب تنتهى لتبدأ من جديد، ومؤامرة واحدة بتفاصيل وأطراف متغيرة، وكأن مصر خُلقَت لتقاتل وتقاوم وتفوز فى النهاية.. كأنها تعيش مخاضاً دائماً وقاسياً.. كأن كل حربٍ تخوضها ولادة جديدة. ما الذى سيفعله الغرب وأمريكا؟. هل سيخوضون حرباً ضد الملايين التى فوضتك وتحتمى فيك وفى جيشها؟ هل سيحركون أساطيلهم نحو سواحلنا ليضربوا مدننا بالقنابل؟ هل سيحاصروننا كما حاصروا دولاً أخرى حولنا، فأذلوها وجوعوها ومزقوا أوصالها وأشعلوا فيها كل أنواع الفتن؟ مصر ليست كهؤلاء يا سيادة الفريق، وميزان القوى عاد إلى اعتداله، فالتفت شرقاً. وارب قليلاً نحو روسيا والصين وغيرهما، وانظر إلى كل العروش التى تتكئ على خرافة «الربيع العربى»: كلها تهتز، وأمامك فرصة تاريخية لتكون أول ضربة فأس فى بنائها الهش.
أنت وجيشك ذروة النخوة، و«عرق» الوطنية الممتد إلى سابع جد، ونحن لم نفوضك لتفاوض هؤلاء القتلة، بل لتطهر مصر من إرهابهم وعفنهم الفكرى والأخلاقى. نحن نعرف أنها ستكون حرباً على أكثر من جبهة، وستكون طاحنة، وقد يسيل الدم فيها إلى الركب، لكنها قدرك وقدرنا. نحن نعرف أن عدوك وعدونا ليس تقليدياً هذه المرة، فحتى إسرائيل تأبى أن تكون دماء أبنائها سلاحاً أو ورقة تفاوض. نحن نعرف أن عدوك وعدونا هذه المرة من دمنا ولحمنا، وتلك هى الكارثة: إما أن نكون «جماعة» فى حرملك المرشد.. وإما أن نكون «دولة»، أقل ما قيل فيها أنها «أم الدنيا»، وقد فوضناك، فلا تخذلنا. لا تستمع إلى دعاة الديمقراطية، ولا تلتفت إلى حسابات السياسة والسياسيين: هؤلاء لن يتفقوا على رأى، والوطنية عندهم كلام صالونات وقاعات مكيفة. هؤلاء يقفون دائماً على حافة المذبحة، وهم الذين أفسدوا نضال المصريين وأكلوا لحم ثوراتهم نيئاً.. وخلافهم رحمة. كن «عبدالناصر» جديداً يا سيادة الفريق.. كن «عبدالناصر» بحق، واخرج بالملايين التى فوضتك من متاهة «ثورة.. أم انقلاب». إذا كانوا يسمونه «انقلاباً».. فليكن: نحن نريد بلدنا بأى طريقة، ولتذهب السياسة إلى الجحيم.