هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب، أيام تصنع التاريخ.. تُرى هل نمر ببعض منها، أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت؟!)
تلك كانت أول كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر «والمقاوحة»، أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع، ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر، ولكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضمّ الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها، لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة، قبيحاً غالباً، متجملاً فى بعضها، بريئاً فى قليل منها.. من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم، يبقى ذات السؤال ملحاً: هى ثورة ولا مؤامرة؟.. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان ولا يزال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نشرت فى حينها، وظلت مشروع كتاب عصىٍّ على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.
ملف فى أمن الدولة
كنت أشعر بحزن من رد فعل الإخوان فى الميدان لكل محاولات إيجاد صيغة حضارية وعادلة لرحيل مبارك بعد خطابه العاطفى المفتعل.. أما اتهامى من قبَلهم بالعمالة لنظامه فقد كان أسخف نكتة سمعتها فى حياتى. اضطررت يومها للانسحاب من الميدان مبكراً حتى لا أصطدم بهم أكثر بعد نقاش حاد أدركت منه أنهم لا يسمعون، وزاد النكتة سخافة أننى أصبحت مراقَبة ومتبوعة فى الميدان بطريقة مضحكة من شباب قروى بسيط كما فى أفلام إسماعيل ياسين البوليسية عندما كان يحاول أن يكون «حدق». صحبنى أحد الزملاء الصغار إلى سيارتى على بُعد ليس كبيراً من الميدان ونحن نتناقش.. فى محاولة متعثرة لفهم أين الخطأ!! وإذا بسيارة ملاكى تتوقف بجوارنا ويترجل منها ضابطا جيش يقومان بتفتيش سيارتى بدقة ويخرجان كل ما فيها تتبعها سيارة أخرى بها أربعة مدنيين يقدمون أنفسهم على أنهم ضباط جيش أيضاً ومساعدوهم.. يحتفظون بهوياتنا ويصادرون كل أوراقى ومنشوراتى ويسمحون لى بالقليل منها. ونظل فى استجواب ونقاش قرابة الثلاث ساعات حتى أوشك الفجر على البزوغ حاولت خلالها أن ألجم غضب الثائر الذى فاض به الكيل من قهر السلطة. أصيح فى وجوههم، أحاول إقناعهم أننا لسنا أعداء وأن مصلحتنا واحدة وعدونا واحد.
أسترد أوراق هويتى أخيراً مع طلب مهذب لا يخفى من بين ملامحه أنياب التهديد بأن أبقى «فى حالى».. ويرحلون.
يخبرنى رفيقى فى الكفاح أنه لا يوجد فى الجيش ضباط لا يرتدون الزى الرسمى إلا المخابرات، أما هؤلاء فهو يعرفهم جيداً وله معهم حكايات كثيرة من أيام الجامعة ومظاهراتها الحالمة، ويبشرنى بأننى أنا أيضاً أصبح لى «ملف» فى أمن الدولة. ولأننى «سنة أولى سياسة» فقد عشت فى وهم أننى مهمة وأن مدوناتى المتواضعة التى كنت أسجل فيها الكثير من التفاصيل اليومية لما يحدث أصبحت هدفاً مهماً لذلك الجهاز سيئ السمعة وأنهم سيحاولون منع ما أكتبه من أن يرى النور، فاتصلت برفيق دراستى وأخى الذى لم تلده أمى د. محمود بدر، حيث إنه بعيد عن الشبهة لعدم حماسه للثورة أساساً، وأعطيته نسخة مما كتبت وأمّنته أن ينشرها فى حال ما حدث لى مكروه لنتذكر تلك اللحظات ونتندّر بها مع الرفاق الذين كانوا يعتقدون أننى أحمل أسراراً خطيرة للدولة لا مجرد توثيق لأحلام البشر.. آمالهم، إحباطاتهم، وتجلياتهم، من كان صادقاً أو موجَّهاً، من كان يبحث عن موضع لقدم تحت الشمس أو من كان يريد أن يستأثر بنورها كله، من خرجوا علينا من عالمهم الافتراضى فقلبوا الدنيا ثم عادوا إلى عالمهم وتركونا «محتاسين» ومن يعانون على الأرض بحثاً عن الحقيقة وقد أصبحنا نمضى على صراط على شفا حفرة من نار بينما تتوق عيوننا للجنة عند خط الأفق الرابط بعيداً.. وما زال الرفاق يتندرون وما زالت الأحلام قيد الأفق.. وما زال الصراط طويلاً.. فهل يتسع ملف أمن الدولة لأحلام امرأة مصرية محلقة حد الجنان والجنون؟!
وللحديث بقية.