هل انتهت الضجة المثارة حول الشيخ الأزهرى.. والمتشدد الدينى «إيهاب يونس»، والذى يعمل إماماً بأحد المساجد والتى اتحد فى إثارتها الأزهر مع وزارة الأوقاف عقب ظهوره فى أحد البرامج التليفزيونية يغنى أغنية «لسه فاكر» لأم كلثوم.. فقرروا وقفه عن العمل باعتبار أنه ارتكب جريمة الغناء النكراء تلك.. وهو يرتدى الزى الأزهرى؟.. كما أصدر الأزهر بياناً ندد فيه بتلك الفعلة المستهجنة.. واتهم الشيخ بالإساءة إلى هيبة الأزهر وعلمائه.
هل انتهت الضجة برفع الدكتور «محمد مختار جمعة» وزير الأوقاف، الإيقاف عن الشيخ وإعادته إلى منبره، مع التنبيه عليه بالحفاظ على وقار الزى الأزهرى.. فلا يعرضه لما لا يستحب ويؤاخذ عليه مجتمعياً، باعتبار أن وقار الإمام من ضرورات عمله.. اجتناب الشبهات واجب.. ويستوجب على من يتصدى للإمامة والخطابة فى الناس.. وهذا ما نقله الأستاذ «حمدى رزق» على لسان الوزير فى محادثة تليفونية خاصة قال فيها إنه تفهم حالة الشيخ «يونس» واستقبله وناقشه.. وقدر فيها أدبه واحترامه لقادته الدينيين وإقراره بما كان منه، والذى أثار البعض عليه، واستمع إليه ملياً بقلب مفتوح ووجهه إلى الإنشاد الدينى لموهبته وطلاوة صوته.. وتحدث إلى متخصصين لرعاية موهبة الشيخ الشاب الذى يتوقع له مستقبلاً واعداً فى مجال الإنشاد الدينى.
العبارات السابقة التى أوردها الوزير تستوجب التوقف عندها ومناقشتها.. إن معنى الحفاظ على وقار الزى الأزهرى باعتبار أن وقار الإمام من ضرورات عمله تستلزم منه «اجتناب الشبهات»، أمر غريب يشى بتوجيه إهانة مباشرة للفن والفنانين ينبغى على من كانوا يمثلون رمزاً من رموز مؤسسة دينية.. الابتعاد وتجنب مغبة الوقوع فى شرك ينال من هيبتهم ويوصمهم «بقلة القيمة» والتراجع فى السلم القيمى وبالتالى ينال من مدى احترام الناس وتقديرهم لأصحاب العمائم فى مقابل نبذ من يمتهنون الفن.
ذلك على الرغم من أن الوزير أكد فى لباقة -خروجاً من المأزق- أنه ليس ضد الفن أبداً.. ولن تكون وزارة الأوقاف يوماً ضد الإبداع بشتى صوره طالما تمسك بالعروة الوثقى.. وهى ترقية المشاعر.
لكنى أعتقد أن الأمر لا علاقة له -فى جوهره الحقيقى- بوقار الزى الدينى.. وإلا فإن هناك سؤالاً يفرض نفسه.. ألا وهو لماذا إذاً صرح لـ«سيد درويش» و«سلامة حجازى».. و«أبوالعلا محمد» و«محمد عثمان» وقبلهم «عبده الحامولى»، بالإضافة لـ«زكريا أحمد» و«صالح عبدالحى» و«القصبجى».. ثم «سيد مكاوى».. وكلهم شيوخ وغنوا بالعمائم.. وكان «الكتاب» وحفظ القرآن الكريم بدايتهم.. وعمل عدد منهم كمقرئين للقرآن قبل أن يتحولوا إلى الغناء.. واستمر لقب الشيخ مرتبطاً بهم.. ولم يصدر ضدهم أى قرار يمنعهم من الغناء.. وتعتز الفنانة الراحلة «سعاد حسنى» كثيراً بأن قيثارة السماء الشيخ الجليل «محمد رفعت» كان يغنى أغنية «رق الحبيب» وغيرها من أغنيات «أم كلثوم» فى سهرات عديدة فى منزل والدها.. حيث يلتف حوله الأهل والأصدقاء والأحباب للاستمتاع بطلاوة شدوه.. وقد ذكرت فى كتاب «السندريلا تتكلم» لمؤلفه «منير مطاوع» -أثناء وجودها فى «لندن» قبل رحيلها الفاجع- أنها قالت ذلك بمناسبة انقضاض معتزلات الفن عليها.. لإقناعها باعتزال التمثيل.. وارتداء الحجاب طلباً للتوبة.. فواجهتهم أن الفن ليس حراماً.. بل هو رسالة سامية كما أن للدين رسالته السامية.. ورفضت طلبهن مستشهدة بذكريات طفولتها بالاستمتاع بغناء الشيخ «محمد رفعت» منذ نعومة أظافرها فى منزلهم.
يذكرنى الموقف من غناء الشيخ «إيهاب يونس» بالضجة التى أثارتها الكنيسة منذ عدة سنوات بعد عرض فيلم «باحب السيما» سيناريو وحوار «هانى فوزى».. حينما تقدم أحد عشر قساً ومستشاراً ببلاغ إلى النائب العام لإيقاف عرض الفيلم.. وكان من ضمن الاتهامات الموجهة له.. الإساءة والسخرية من رجل الدين بانتهاك وقاره وهيبته وزيه الكهنوتى.
وبدلاً من الاهتمام بمغزى الفيلم العميق وطرحه لأسئلة فلسفية تتصل بالله والإنسان والوجود والهوية والانتماء البشرى والمفارقة ذات الدلالات المهمة بين التشدد الدينى.. وبين حب الحياة والاحتفاء بها.. وبين حب الله والخوف من عقابه للخاطئ.. ثم ذلك الخلط الذى تفاقم تفاقماً مهولاً بين الخطاب الدينى والخطاب الفنى.. كان كل ما يعنيهم إدانة المؤلف والمخرج لتصويرهما حدثاً درامياً تتم فيه مشاجرة عنيفة بين عائلتى عريس وعروس أثناء مراسم الزواج داخل قاعة الكنيسة.. أصيب على أثرها القس ببعض الإصابات.. ورأوا أن فى ذلك ما يسىء إلى الكنيسة وإلى المسيحية.. ويؤدى إلى هز هيبة ووقار القس وردائه الدينى.. رغم أن الرداء الدينى.. ليس هو الدين.. كما أن رجال الدين ليسوا هم الدين، ووقار وهيبة رجل الدين لا ينتقص منها أن ينتمى مثلنا إلى الجنس البشرى.. فكما يعظ ويقيم الصلاة.. ويصوم.. ويؤدى كافة الطقوس الدينية، فإنه يفرح ويحزن.. ويأكل ويشرب.. ويضحك ويعبس.. ويغنى ويستمع إلى الموسيقى.. ويشاهد السينما والمسرح مثلنا.. كما أنه يخطئ ويصيب.. يطمع ويتعفف.. يسمو وينحط، وهناك نماذج لا تحصى ولا تعد لشيوخ وكهنة كانوا نموذجاً فريداً فى الصلاح والتقوى والزهد والفضيلة.. وآخرين ضلوا وانحرفوا.. وكلهم.. الصالح والطالح، يتسربلون بالزى الدينى.