تتغير العصور ولكننا نبقى على حالنا نجتر نفس الأزمات ونفس البؤس المعرفى، يعبر بنا الزمن وكأنه لم يمر فما زلنا نقف على عتبة الجهل وتستوطن الخرافة والتخلف فى عقولنا التى تهوى البقاء فى قلب الغيبوبة، تاريخنا يقول إننا نعيش نفس اللحظة التى عشناها منذ أكثر من مائة عام، فما زال أكثرنا مخلصاً لنفس الجهل ونفس الجمود، ولكن ليس لدينا محمد عبده وقاسم أمين، فكلاهما كان صاحب دعوة حقيقية بها فكر وضمير وعلم وتنوير بعيداً عن الاستعراض والمظاهرة به، تتشابه النخب والمناخ والتصرفات والأداء والإعلام فى كل العصور، فالصحافة والنخبة أغلبهما لا يبحث وراء الحقيقة بل وراء المصلحة الخاصة أو وراء توازنات القوى، فى مؤلفه الشهير مذكرات فى السياسة المصرية يصنف محمد حسنين هيكل باشا الحالة المصرية التى تعلن غياب الموضوعية والانحياز إلى توازنات القوى وفقدان المصداقية، تتساوى فى ذلك الأحداث السياسية مع الأحداث الاجتماعية، ويؤرخ لأهم المشاهد فى عصره من خلال أشهر الصحف وقتها المؤيد واللواء يقول: عكفت على مطالعة المؤيد واللواء لأتابع عن كثب هذه التيارات السياسية وأحاول أن أتبين وجه الحق فيها، إذ وقع حادث طابا وأدى إلى أزمة سياسية دولية بين تركيا وإنجلترا وقالت تركيا إن طابا من أرضها وقال الانجليز إنها أرض مصر وإن مركزهم فى مصر يجعلهم يدافعون عن حقوقها، أما المؤيد واللواء فإنهما انضمتا إلى تركيا وقررتا أن مصر لا تمانع فى أن تكون طابا تركية، وقيل يومئذ إن الحرب واقعة لا محالة بسبب هذه الأزمة بين السلطان والإمبراطورية البريطانية، وأخذ الناس فى مصر يتطلعون إلى ما أسفر عنه الخلاف بين دولتين على قرية تابعة لمصر لا لتركيا ولا إنجلترا، تتبعت هذه الحادثة بعناية وكانت أكبر غايتى متجهة إلى ما تكتبه الصحف وجريدة اللواء، وصدقت كما يصدق من كان فى مثل سنى ما رددته «اللواء» عن قوة الدولة العثمانية وعن أنها لن تتراجع عن موقف حق، وأشد ما كانت دهشتى عندما رأيت هذه الظاهرة الصخبة الكبرى تنتهى بتراجع تركيا عن موقفها بانسحاب القوات التى كانت قد بعثتها مهددة باحتلال طابا، وزادت دهشتى شدة تراجع اللواء والمؤيد وغيرهما من الصحف عن الموقف الذى وقفوه ووصفهم تراجع تركيا بالحكمة والكياسة وبأنه دليل قوة لا دليل ضعف، حينذاك أيقنت أن المنطق كما أفهم ليس منطق هذه الصحف وأصحابها ولم أر فى هذا المنطق ما يدفعنى إلى متابعتها فى الحديث عن سياسة مصر، واقترنت هذه الحيرة السياسية بحيرة أخرى اجتماعية، فقد اطلعت على كتاب تحرير المرأة وما كتب طعناً عليه، ثم اطلعت على تفنيد قاسم أمين حجج خصومه فى كتابه المرأة الجديدة، وأعدت قراءة كتابى قاسم أمين واقتنعت بأنه على حق، وعجبت لموقف جريدة اللواء التى اتهمته بمخالفة الدين، تأييداً منها لموقف الخديو الذى حرم على قاسم أمين دخول عابدين، ولم تكن هذه الحيرة الاجتماعية أقل تأثيراً فى نفسى من الحيرة السياسية، فقد بدأت أشعر بأن متابعة الجماهير هى الطريقة الأسهل لكنها تؤدى أكثر إلى الخطأ، وفى التفكير الدينى نشأت حركة لها أثرها فى مصر كلها تلك حركة الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغانى فى الدعوة إلى التفكير الحر وفتح باب الاجتهاد فى المسائل الدينية، فقد كان الناس لذلك العهد يرددون أن باب الاجتهاد قد أغلق وأن كل فتوى على غير المذهب بدعة، وكان الشيخ محمد عبده قد بلغ مركز الإفتاء للديار المصرية، كان مع ذلك رجلاً حر الرأى، كاتباً وأديباً، يتذوق جمال اللغة خير تذوق، ويدرك قواعد النطق أحسن إدراك، لذلك رأى أن التقليد ليس من الدين فى شىء، وأن السلف من المعتزلة وغيرهم آراء يمكن الأخذ بها وتأييدها إذا خالفت المذهب، وذهب فى غير تردد إلى أن هذا الجمود هو الذى قضى على الأمم الإسلامية بالتأخر وجعلها طعماً للاستعمار الأجنبى، لأنه قيد العقل فى هذه الأمم الإسلامية بقيود منعته من إدراك الحق والجمال والجلال فى خلق الله جل شأنه، ولقى محمد عبده ودعوته مقاومة كبيرة، لأن الخديو عباس غير راض عنه، وكانت علامة استفهام وتعجب كبرى بالنسبة لهيكل باشا أن جريدة اللواء وصاحبها مصطفى كامل تهاجم قاسم أمين لأن الخديو يهاجمه، وكان الخديو مسانداً لمصطفى كامل ضد الإنجليز، وفى حديثه عن أيام وزارة سعد زغلول قال عن الشعب المصرى: (كثرتهم الكبرى تؤمن بأن سعد نبى الوطنية وبأن من خالفه أو خرج عليه خالف الدنيا وخرج عليه: أليسوا يؤمنون بأن الجنين فى بطن أمه نادى يحيا سعد، وبأن ورق بعض النبات ظهر مكتوباً عليه يحيا سعد، سواد ذلك إيمانه لا يتحول فى سنة أو سنوات عن عقيدته) وإذا كان د. هيكل باشا كان يرى أن تركيبة الشعب المصرى عصية على التغيير فى سنة أو سنتين، فالواقع أثبت أنها عصية ولو بعد مائة عام، وما زالت نفس الأمراض ونفس العقليات ونفس طريقة التعاطى مع المشكلات، ما زلنا نتجادل حول نفس الموضوعات وتتكرر نفس المواقف من نفس الجهات تجاه كل ما هو تغيير حقيقى، وهذا الأمر سيستمر مئات أخرى من السنين طالما بقى الجدل وهوى المصالح دائراً بين نخبة وأخرى وجهة وأخرى، وكل هؤلاء ينصبون أنفسهم وكلاء عن شعب لا يستطيع التمييز أين مصالحه الحقيقية ولا يستطيع فرز الاتجاهات ولا يستطيع المشاركة فى صنع مستقبل أفضل طالما بقى محروماً من التعليم والعلم الذى يصنع الوعى، وستبقى الدائرة تدور طالما كانت الأغلبية بينها وبين التنوير عداء أو مساحة شاسعة وسنبقى فريسة لأى نصب دينى أو سياسى أو إعلامى.