حين تتكاثر الديون يعود التاجر إلى دفاتره القديمة، لعل فيها رزقاً خفياً أو سُلفة منسية قد تسد بعضاً من هموم الدين، لا أعرف السبب الذى دفعنى إلى تذكر هذا المثل حين سمعت خبر أن مجلس وزراء الخارجية العرب سوف يجتمع الأحد المقبل للبحث فى انتهاكات إيران ضد بعض الدول العربية، الخبر جيد بوجه عام، ربما يحيى دور الجامعة أو يعيد لها بعضاً من أدوارها المنسية، وربما تكون بداية صحوة من أجل لملمة الوضع العربى الذى تتقاذفه الأمواج من كل اتجاه، ويحتاج إلى بوصلة شديدة الوضوح وإلى عمل عربى جماعى افتقدناه منذ مدة طويلة، وطالما نادينا به لأنه طوق النجاة الوحيد، كثير من هذه النداءات وجدت آذاناً صماء فى حينها، أو وضعت فيها قطعة من القماش حتى لا يُسمع النداء، وسوف يستمر النداء إلى أن يتم المطلوب، وهو باختصار الالتزام بإرادة عربية من أجل حماية الذات وردع الأعداء، وبالتالى وقف الانتهاكات أياً كان مصدرها وأياً كان من وراءها.
المهم هنا أن سبب الدعوة يتعلق بالمشروع الإيرانى فى الهيمنة على مقدرات الإقليم، ولها فى ذلك استراتيجية معلنة وسياسات وبرامج مطبقة منذ قيام الجمهورية الإسلامية فبراير 1979 لم تَحْد عنها قيد أنملة طوال هذه السنوات الطويلة، وكنا نلمح يوماً بعد يوم كيف تتعمق هذه الاستراتيجية رغم القيود والعقبات والضغوط، وكيف تنتشر وتمتد فى أكثر من بؤرة وموقع وبلد وقارة، وكنا نشاهد أيضاً كيف تنشأ بؤر التأييد المحلية، التى تتحول بعد فترة إلى قوة أساسية فى معادلات البلد العربى المعنى، ثم تنتقل إلى موقع القيادة والتأثير الذى يصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تجاوزه على الأقل فى بعض الأمثلة.
حين تقوم السياسات على تعبئة وجذب قطاعات من المجتمع لكى يكون امتداداً لقوة خارجية على بُعد مئات أو آلاف الكيلومترات، فالسؤال المركزى الذى يجب التوقف أمامه طويلاً يتعلق بالأسباب التى تدفع هؤلاء إلى أن يكونوا امتداداً لغير بنى جلدتهم؟ والحق أن التحدى هنا لا يتعلق بهؤلاء فحسب بل بالنظام العام الذى يوفر لسياسات قوة خارجية أن تحقق النجاح تلو الآخر، ولا يحسب لذلك أى حساب إلى أن تحدث الطامة الكبرى، العوامل الداخلية والمحلية سبب مباشر لا يمكن تجاهله، وبالامتداد سبب آخر تعلق بأن كثيرين من المستهدفين العرب إيرانياً إما رحبوا رسمياً بوجود تلك البؤر المجتمعية مقابل بعض الامتيازات أو نكاية فى طرف عربى آخر، وإما تصوروا أنه يمكنهم وحدهم السيطرة على الوضع دون أى مساندة أو دعم عربى، وإذا بهم بعد فترة يكتشفون أن الأمر أكبر من طاقاتهم المُتخيلة وأشد عُسراً على الاحتواء، الأكثر من ذلك كان بعض هؤلاء يقف بالمرصاد لكل جهد أو دعوة تسعى إلى وضع لبنة أولى لإعادة الحيوية للنظام العربى وجامعته العربية أو تشكيل منظومة ردع عربية تفيد الجميع بلا استثناء، رغبات القيادة المنفردة تحكمت واستحكمت، وصار على الدَين أن يُدفع.
إيران لديها بالفعل بعض مكامن قوة لا سيما فى صناعة السلاح والبترول، ولكنها ليست أغنى من العرب، وليست أكثر حضارة، وليست أقوى اقتصاداً، وليست ذات علاقات مفتوحة مع العالم بأسره كما هو العرب، ومع ذلك فهى تهددهم جميعاً، ولذا فالسؤال لماذا حققت ما تراه دورها التاريخى المفقود، ولم يفعل العرب ذلك؟ انظروا معى إلى هذين التصريحين الإيرانيين، أحدهما لمسئول بارز يُعرف كرمز للمعتدلين الإيرانيين، والثانى مسئول بارز لمن يعرفون بالمتشددين، يقول الرئيس حسن روحانى فى أكتوبر الماضى «لا يمكن فى العراق وسوريا ولبنان ودول الخليج ودول شمال أفريقيا القيام بأى خطوة مصيرية من دون موافقة إيران». بعبارة أخرى أن الرئيس روحانى يرى بلاده مهيمنة على شئون العرب جميعاً بلا استثناء، ثمة مبالغة فى العبارة ولكنها تفصح عن قناعة صلبة بأن إيران ليست قائد المنطقة وحسب، بل المحدد الرئيسى لمصيرها أيضاً، هناك تأثير إيرانى فى دولة أو دولتين فى بلدان شمال أفريقيا، أما كافة الدول فهذا غير واقعى، على الأقل لدينا نحن الآن فى مصر حيث لا نفوذ لإيران ولا حتى علاقات معها، وبالمقارنة العابرة فالولايات المتحدة وهى القوة الأكبر فى العالم والأكثر نفوذاً فى منطقتنا العربية لا يمكنها أن تدعى مثل هذه الهيمنة، بيد أن رمزاً إيرانياً معتدلاً فعلها لعل وعسى يعرف العرب أقدارهم من منظور إيرانى.
التصريح الثانى لرمز متشدد نائب قائد الحرس الثورى يقول «يجب على العالم كله أن يقبل أن القدرة التى تؤدى دوراً مهماً فى المنطقة هى إيران، وهو دور يمتد من شمال البحر الأحمر حتى الشرق الأوسط، ولا يمكن إنكاره فى سوريا والعراق ولبنان» هكذا يتفق الاعتدال والتشدد الإيرانيان على أن المنطقة العربية هى المجال الحيوى للنفوذ الإيرانى، كلاهما يتفقان على الإقلال من قدرة العرب على التحكم فى مصيرهم، وكلاهما يبشران بتبعية عربية كاملة فى المدى القصير.
حين تصل الأمور فى الإدراك الإيرانى إلى هذا الحد من الصلف، فلا بد أن يكون هناك رد فعل عربى يناسب حجم التحدى، صحيح أن النفوذ الإيرانى موجود فى أربعة بلدان عربية، ما بين طاغ ومؤثر، لكن باقى الدول العربية ليست كذلك، لكن إن استسلم العرب إلى هذا الأمر فالدور سيأتى عليهم واحداً تلو الآخر، المواجهة الفردية ثبت أنها عقيمة ومحدودة أو لا تخلو من تراجعات، الرؤية الإيرانية وما يتبعها من سياسات وبرامج فكرية ومذهبية وتدريبية وتسليحية تحتاج إلى سياسات مواجهة مبرمجة فى كل هذه المجالات، وأكثر شرط أن تكون عربية جماعية وليست فردية، إصدار بيان شديد اللهجة من الجامعة العربية أو اللجوء إلى مجلس الأمن ليصدر بياناً مماثلاً يحذر فيه إيران، قد يعطى مكسباً معنوياً آنياً ولكنه لا يكفى ولا يسمن من جوع، دعونا نفكر ونطبق استراتيجية ردع شاملة، دعونا نخرج من الشرنقة الفردية إلى آفاق جماعية عربية، ولندعو وزراءنا العرب للعودة لبحث معمق وفورى من أجل إحياء قوة عربية مشتركة تصاحبها استراتيجية ردع تحمى كل الدول العربية من التهديدات والمخاطر التى تتربص بنا جميعاً، ليتهم يخرجون من التفكير المُعلب إلى خارج الصندوق ولو لمرة واحدة فقط وسترون حجم الفائدة، فهل يفعلون؟