ويستمر حديثنا عن دولة المواطنة، وهى الدولة التى يسود فيها مبدأ المساواة أمام القانون، بحيث يكون «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر» (المادة 53 من الدستور). وهكذا، فإن دولة المواطنة تتسع لجميع المواطنين، بغضّ النظر عن دياناتهم، ويتمتعون فيها بكافة الحقوق دونما تمييز أو تفرقة. وفى هذا الإطار، فإن حكماً صادراً عن المحكمة الدستورية العليا يستحق إلقاء الضوء عليه وترجمته إلى اللغات الأجنبية وتسويقه على المستوى الدولى.
ففى الرابع من فبراير 2017م، حكمت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية صدر الفقرة الأولى من المادة 71 من قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978، فيما تضمنته من قصر نطاق تطبيق أحكامها على أداء فريضة الحج، دون زيارة بيت المقدس بالنسبة للموظف المسيحى الديانة. وتتلخص وقائع هذا الحكم فى أن إحدى المواطنات المسيحيات أقامت دعوى أمام محكمة القضاء الإدارى، طالبة الحكم بأحقيتها فى احتساب إجازتها خلال الفترة من 28 مارس حتى 26 أبريل 2007م إجازة خاصة بأجر كامل لأداء فريضة التقديس ببيت المقدس، مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها عدم احتسابها من رصيد إجازاتها الاعتيادية. وأثناء نظر الدعوى، تقدمت بمذكرة دفعت فيها بعدم دستورية المادة (71) من قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة فيما أغفلته من النص على أحقية العامل المسيحى فى الحصول على إجازة خاصة بأجر كامل لمدة شهر لمرة واحدة طوال حياته الوظيفية لزيارة بيت المقدس، مع عدم احتسابها من الإجازات الأخرى التى يحصل عليها بأجر كامل. وتنعى المدعية على النص المطعون فيه مخالفته لأحكام الدستور، قولاً منها إنها كمسيحية مقيمة إقامة دائمة فى مصر، ولها ما للعاملين المسلمين وعليها ما عليهم، فإنه يحق لها الحصول على إجازة بأجر كامل لزيارة بيت المقدس شأنها فى ذلك شأن العاملين المسلمين عند قيامهم بفريضة الحج، وأن هذا الحق كفلته لها الشريعة الإسلامية، كما قررته المادة (53) من قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، وأغفله النص المطعون فيه الذى اقتصر على تقرير الإجازة لأداء فريضة الحج.
وإزاء هذا الدفع، وبعبارات من ذهب، أكدت المحكمة الدستورية العليا أن «مبدأ المساواة أمام القانون الذى رددته الدساتير المصرية المتعاقبة بدءاً بدستور سنة 1923، وانتهاءً بالدستور القائم الذى تناوله فى المادتين (4 و53) منه، يستهدف حماية حقوق المواطنين وحرياتهم فى مواجهة صور التمييز التى تنال منها أو تقيد ممارستها، وهو بذلك يُعد وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التى لا يقتصر تطبيقها على الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها فى الدستور، بل يمتد مجال إعمالها إلى الحقوق التى يقرها القانون ويكون مصدراً لها، ومن ثم لا يجوز للقانون أن يقيم تمييزاً غير مبرر تتنافر به المراكز القانونية التى تتماثل فى عناصرها، وحيث إنه متى كان ذلك، وكانت زيارة الأماكن المسيحية ببيت المقدس تُعد من الواجبات الدينية لدى المسيحيين، وقد أقر المشرع ذلك بالنص عليها صراحة فى المادة (53) من قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، بما لازمه صيرورة هذه الشعيرة من الشعائر الدينية التى أوجب الدستور على المشرع العادى كفالة الحق فى ممارستها بحرية لأصحاب الأديان السماوية الثلاثة، والذى يُعد النظام القانونى الذى يكفل ذلك أحد وسائله لتحقيق تلك الغاية، وسبيله لذلك بالنسبة للعاملين، ومن بينهم شاغلو الوظائف العامة، يكون من خلال تقرير الحق فى الإجازة اللازمة لممارستها، باعتبارها أحد الحقوق المتفرعة عن حق العمل والحق فى الوظيفة العامة.. ومن ثم، لا يجوز للسلطة التشريعية أن تجعل من السلطة المخولة لها فى تنظيم هذه الحقوق مدخلاً للمساس بأصلها أو تعطيل جوهرها، أو إهدار حقوق يملكها العامل، وعلى الأخص تلك التى تتصل بالأوضاع التى ينبغى أن يمارس فيها حقه فى العمل، ويندرج تحتها الحق فى الإجازة الذى لا يجوز لجهة العمل حجبه عمن يستحقه، كما يتعين عليها تمكينه من أداء فرائضه وواجباته الدينية، التى تقرها الأديان السماوية، على أساس من المساوة، ودون تمييز فى ممارستها بين العاملين المتماثلين فى مراكزهم القانونية، ومن بينهم المخاطبون بأحكام قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة، ممن يتناولهم النص المطعون فيه، وإلا وقع النص المخالف لذلك عدواناً على حق العمل، والحق فى الوظائف العامة، والحق فى ممارسة الشعائر الدينية، فوق كونه يُعد مصادماً لمبدأى المواطنة والمساواة اللذين كفلهما الدستور، باعتبارهما أساساً لبناء المجتمع وصيانة وحدته الوطنية».. والله من وراء القصد.