عندما ندد المستشار أحمد أبوزيد، المتحدث باسم وزارة الخارجية، بالمقال الذى كتبه سيمون تزديل ونشرته صحيفة الجارديان البريطانية تصاعدت تساؤلات عدة حول أسباب ما وصفه «أبوزيد» بأنه «شعور جارف بالصدمة والغضب» عند قراءة المقال، خاصة أن الخارجية المصرية نادراً ما تطلق تصريحات أو مواقف معلنة حيال مقال منشور فى صحيفة ما مهما بلغت قسوته، إلا أن هذه التساؤلات تلاشت لتتحول إلى غضب ممزوج بدهشة فور قراءة محتوى المقال، ولكن ستزول أيضاً الدهشة عند تتبع مقالات الكاتب التى تتناول الداخل المصرى بلغة ظاهرها التمكن وباطنها التعصب الممتزج بالتحيز.
إذا ما استبعدنا «نظرية المؤامرة»، واحتمالات «الخطاب الإعلامى الموجه» لتحقيق أهداف بعينها، وتحدثنا بصورة موضوعية حول محتوى ما ورد فى المقال سيبدو لنا الكثير، فمثلاً يقول كاتب المقال إن «تاريخ مصر الحديث أثبت أن الاستجابات العسكرية العشوائية للإرهاب تؤدى إلى التصعيد»، ومع التحفظ الواجب على لفظ «استجابات عشوائية»، والتى لا أجد رداً عليها سوى تساؤل يطرح نفسه: ما الفرق فى وجهة نظر الكاتب بين الاستجابة العسكرية العشوائية والاستجابة المنظمة؟ وعلى أى أساس ووفقاً لأى معايير تبنى هذا الوصف؟
وبقراءة المقال ومراجعة مقالاته السابقة يبدو أن الكاتب يتعامل مع قضية الإرهاب فى مصر من رؤية محدودة، فهو ما زال غارقاً فى محتوى مقالاته التى قام بكتابتها فى عهد «مبارك» ويستشهد بها وكأنها ملائمة لما نشهده فى الوقت الراهن، ونسى أو بشكل أدق تناسى أن مصر فى سيناء لا تواجه نمط إرهاب التسعينات، وإنما تواجه نمطاً جديداً من الإرهاب متمثلاً فى تنظيمات إرهابية عابرة للحدود، تضم جنسيات مختلفة وأهدافاً أبعد، ويتزايد التناقض عندما يتحدث بنفسه عن أن سيناء قد تكون وجهة بديلة لعناصر تنظيم داعش الهاربة، ويعود ليتحدث عن فشل وعدم ملاءمة التعامل العسكرى معهم!! إذاً هل يقترح الكاتب أن نقيم مع «داعش» حواراً؟!!!!
يعود الكاتب ليشكك فى أهداف الضربات الجوية التى وجهتها القوات المسلحة للعناصر الإرهابية، ويرجح أن القوات الجوية المصرية قد اختارت أهدافاً عشوائية لضربها، بل يتجاوز فى استنتاجاته القائمة على الوهم مفترضاً أن «أرواحاً بريئة قد فُقدت الآن»، لم يتحدث الكاتب كثيراً عن الأرواح التى زُهقت أثناء الصلاة ولم يفرد لها مساحة فى المقال، بل بات يكيل الاتهامات ويدافع عن العناصر الإرهابية التى تم استهدافها ليروج لاحتمالات كونها أرواحاً بريئة، إلى أى براهين استند فى هذا الاستنتاج؟ لا أعلم، أى حجة منطقية صاغها فى هذا الصدد؟ لا يوجد، ولعل حرص القوات المسلحة المصرية على توثيق كافة عملياتها العسكرية ضد العناصر الإرهابية فى سيناء وتصويرها هو أبلغ رد على ما ورد من كلام مرسل فى متن المقال.
ولن أتحدث عن إغفال الكاتب للعملية الإرهابية فى حد ذاتها، وعدم تطرقه للتنظيم الإرهابى، أو للضحايا، إلا أن أكثر ما يثير انتباهى دوماً فى حالات كتلك تعالى أصوات الصامتين فى أوقات الأزمات والكوارث متسائلين: أين الديمقراطية وحقوق الإنسان؟
إن الحدة التى اتسمت بها لغة المقال، وكم الاتهامات الموجهة تجاه السلطة والجيش المصرى، حادت به تماماً عن مسارات الموضوعية وحسن النية، الكاتب لم ينفعل من وحشية الإرهاب، وانفعل من رد الفعل المشروع تجاه هذه الوحشية واصفاً إياه بأنه «إدمان للعنف»!! إنها حقاً «مفارقة مضحكة مبكية».
يحرص كاتب المقال أيضاً على استخدام مجموعة من المصطلحات المفخخة، فنجده مثلاً يصف بعض المناطق فى سيناء بأنها «ungoverned spaces»، أو مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة، ويستخدم هذا المصطلح فى الغالب لوصف المناطق التى تتسم بوجود سيطرة حكومية محدودة أو غير مكتملة داخل الدولة، ولعل المثير للدهشة فى مجمل المقال أن الكاتب لم يستخدم وصف «الإرهاب» عند حديثه عن الجماعات الإرهابية النشطة فى سيناء، بل يشير إليها مستخدماً مصطلح militant وليس Terrorist، أى إنها -وفقاً لطرحه- جماعات مسلحة وليست جماعات إرهابية، وهو الوصف الذى استخدمه عند طرحه لواقعة قتل 30 جندياً مصرياً فى سيناء فى 2014، التى قام بها -وفقاً لصياغته- «مسلحون» وليس إرهابيين، أيضاً يصف الكاتب جماعة أنصار بيت المقدس، أو كما تطلق على نفسها اسم ولاية سيناء، بأنها جماعة إسلامية an Islamist group، ولم يصفها بأنها جماعة إرهابية.
وبعيداً عن المقال الحالى وبتتبع مقالات الكاتب نجده فى 1 أبريل من عام 2014 قام بنشر مقال مثير للريبة فى صحيفة الجارديان ينتقد فيه بحدة حظر «السيسى» لجماعة الإخوان المسلمين ويدين محاكمة الرئيس السابق محمد مرسى، مبدياً تعاطفاً واضحاً مع الإخوان المسلمين، واصفاً ما تم من إجراءات حيال عناصر الإخوان المتورطة بأعمال عنف فى مصر فى هذا التوقيت بأنها «بشعة ووحشية»، مبدياً استياءه من حظر موقع الجزيرة الإنجليزية، ومنتقداً إدارة «أوباما» لعدم تدخلها المباشر حيال إزاحة محمد مرسى، التى وصفها بأنها «انقلاب عسكرى»، بل إنه يذهب إلى أبعد مدى فى الدفاع عن جماعة الإخوان المسلمين قائلاً: «إذا كانت هناك انتخابات حرة فى مصر فسوف تفوز جماعة الإخوان المسلمين مرة أخرى»، ويستمر تغزل الكاتب فى جماعة الإخوان واصفاً إياها بأنها جمعية خيرية دينية واجتماعية تطورت إلى قوة سياسية، وأن من أهم مبادئها معارضة ممارسة العنف لتحقيق أغراض سياسية، ويمتد الكاتب فى تبريراته ودفاعه عن أنصار الإخوان وما قاموا به من أعمال عنف فى مختلف أنحاء مصر واصفاً إياها بأنها ما هى إلا «مقاومة» لحكم عسكرى، وأن هذه المجموعات لا تمثل حركة الإخوان ككل ولا تعبر عن فكر معظم أعضائها، بل إنه يدعو فى المقال بريطانيا والدول الغربية إلى مناصرة ومساندة الإخوان المسلمين بوصفها واحدة من الحركات الإسلامية المسالمة وذات الشعبية، ويحث بريطانيا أن تستضيف الإخوان الفارين لديها احتراماً لتاريخها الطويل والمشرف باستضافتها اللاجئين السياسيين والجماعات الفارة من القمع.
وعقب ما سبق من طرح تزول الدهشة ويبقى فقط «الغضب».