الأقوياء هم الذين يدركون أبعاد المسافة.. بين ضيق السياسة وسعة التاريخ. هم الذين يؤمنون بأن حقائق الجغرافيا أبقى من موازين القوة.. وأن سطوة المبادئ أعلى من سطوة السلاح.
الأقوياء هم من لا يُصيبهم الإحباط مهما علتْ جبال اليأس.. ومن لا يفقدون جرأة الأمل.. مهما كان حجم الأخبار السيئة.. ومهما تقلّص الأفق.. ولامسْت السماء سطح الأرض.
الأقوياء هم من لا يقضون حياتهم فى ذرف الدموع على تاريخٍ ضائع.. أو مجدٍ سابق.. من لا يستغرقون أعمارهم فى سرديّات الأسى والخطأ.. وتوزيع لائحة الاتهام على قسوة الزمان وبؤس المكان.
هذا وقت الغضب.. لكنه أيضاً وقت الأمل.
(1)
إنها خريطة صادمة.. تمتد من الدم إلى الدم.. ارتباك واختناق فى كل مكان.. موجة مروعة من التطرف الدينى، وموجة أكثر ترويعاً من التراجع الاقتصادى.. وموجة ثالثة من الضغوط على القوة الصلبة والقوة الناعمة. كأنَّ مآسى العالم قد اختارتْ أن تغادر كلّ خطوط الطول والعرض.. وتبقى عندنا.
لا أحد غيرنا فى نشرات الأخبار، ولا أحد سوانا فى صناعة الحزن.. حتى كوريا الشمالية لا تواجه كل هذه المساحة من الألم. فى كوريا الشمالية يتحدثون عن حرب مع أمريكا.. وعن رؤوس نووية وصواريخ بعيدة المدى.
فى كوريا الشمالية يتوقع البعض أن ينفلت الزمام ذات يوم وأن يقع البلاء.. وفى العالم العربى.. لا ينتظر أحد وقوع البلاء.. ذلك أنه قد وقع بالفعل.. وهو يتمدد كل يوم.. مدناً وعواصم.. مبانى ومعانى.
(2)
كأنَّ كل ذلك المشهد لا يكفى.. حتى يجيئ الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بقراره المفزع.. بنقل السفارة الأمريكية إلى «القدس» واعتبارها عاصمة لإسرائيل.
راح الحديث عن المستوطنات واللاجئين تحت وطأة الحديث عن القدس الشريف.. وبدلاً من أن تدين أمريكا جرائم إسرائيل وتضغط لأجل إحلال السلام.. إذا بها تتحدث عن معجزة حضارية فى إسرائيل.. عن تحويل اليابس إلى أخضر.. والفقر إلى ثراء.
إنها نفس كلمات شيمون بيريز قبل سنوات.. إنه صوت إسرائيل من عواصم الغرب. لا حقيقة واحدة فى هذا.. إنه سلاح الغرب.. من البرنامج النووى إلى الطائرات والغواصات. ثم إنه اقتصاد الغرب الذى أعطى لملايين محدودة من البشر مليارات غير محدودة من الدولارات. ثم إنه -أيضاً- أداء الغرب.. الذى جاء ذات يوم بآية الله الخمينى من أوروبا إلى طهران.. ثم ترك ذات يوم آخر منتخب العالم للتطرف ليقيم مبارياته فى بلادنا.
ليس فى إسرائيل معجزة.. وليس فيها ما يدعو إلى الإبهار. ليس من المنطق الانبهار بالظلال دون الأصول.. لقد حققّت الولايات المتحدة ثم الآخرون.. تقدماً عظيماً.. وما أصبحتْ عليه الحضارة الغربية الآن هو معجزةٌ كاملة.. لكن ما أعطاه الغرب منها لإسرائيل لا يمكن أن يحوّل «المعونات» إلى «بطولات»، و«الصدقات» إلى «معجزات».
(3)
إننى أدرك تماماً.. حقائق القوة، كما أدرك خريطة العلم وجغرافيا المعرفة.. وأدرك أيضاً أن جهوداً كبيرة قد جرت فى الجانب الآخر.. من علماء ومخططين، جامعاتٍ وبحوثٍ، شركاتٍ ومؤسساتٍ، ليصل المشهد إلى ما هو عليه.
لكننى أدرك أيضاً أن أمتنا فى لحظة انهيار نفسى.. وتعانى من صدمة قد تهز كيانها لسنوات طويلة. بات خطاب اليأس هو كل ما لدينا.. باتت «مواقع التصادم الاجتماعى» تشهد كل لحظة مواكب نائحاتٍ ونادباتٍ ولاطمات خدود.
ليس هذا وقت هؤلاء.. لنترك أصحاب القلوب الضعيفة لدموعهم.. وليبدأ أصحاب القلوب القوية والعقول الكبيرة فى تثبيت الأمة.. وشحذ الهمم.. واستعادة الأمل. هذا وقت العزيمة.. لا خطاب الهزيمة.
اليأس خيانة والأمل وطن.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر