كما سبق أن قلنا، فإن قرار الرئيس الأمريكى بنقل السفارة يأتى تنفيذاً للقانون الصادر فى الثامن من نوفمبر 1995م بشأن سفارة القدس. وفى شهر يونيو الماضى، وبعد أيام فقط من إصدار «ترامب» تنازله الأول عن مطلب نقل السفارة، صوت مجلس الشيوخ بالإجماع لصالح قرار يعيد تأكيد قانون 1995م، ويدعو الرئيس ترامب إلى الالتزام ببنوده. ولعل ما يثير التساؤل هنا هو تدخل الكونجرس الأمريكى فى أحد الموضوعات التى تندرج تقليدياً ضمن اختصاصات السلطة التنفيذية، وعلى وجه التحديد ضمن صلاحيات رئيس الدولة، ونعنى بذلك العلاقات الخارجية.
والواقع أن المتتبع للقوانين الأمريكية الصادرة فى الربع الأخير من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، يلحظ بوضوح تزايد عدد القوانين التى تصدر فى شأن العلاقات الخارجية. ولا تتضمن هذه القوانين قواعد عامة مجردة بتنظيم هذه العلاقات، ولا تعد بالتالى «تشريعات» بالمعنى الدقيق لهذا اللفظ، وإنما يمكن اعتبارها بمثابة «قرارات سياسية». والأمثلة على ما سبق متعددة، وتتعلق فى الأغلب الأعم من الأحوال بالعلاقات مع دول العالم الثالث. ففى العام 1996م، صدر قانون الجزاءات ضد ليبيا وإيران، ومؤخراً صوَّت مجلس النواب لصالح مشروع قانون الشفافية حول أصول المسئولين الإيرانيين، كما وافق المجلس على مشروع قانون من شأنه تعزيز الرقابة على شراء إيران طائرات تجارية. وبتاريخ 8 سبتمبر 2016م، قدم أحد أعضاء مجلس النواب مشروع «قانون المساءلة عن الكنائس القبطية»، الذى يلزم وزير الخارجية بأن يقدم تقريراً سنوياً إلى الكونجرس بشأن الجهود المبذولة لاستعادة أو إصلاح الممتلكات المسيحية فى جمهورية مصر العربية، والتى أحرقت أو تضررت أو دُمرت خلال أحداث العنف فى أغسطس 2013م.
ولا يقتصر شكل التدخل على إصدار قوانين، وإنما يحدث أيضاً أن يعقد الكونجرس جلسات حول أوضاع حقوق الإنسان فى الدول الأجنبية. وهذا التدخل من الكونجرس فى أمور السياسة الخارجية يكون فى أغلب الأحوال موضع انتقاد من حكومات دول العالم الثالث، ويثير استغراب ودهشة هذه الدول فيما يتعلق بحدود سلطة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أشارت إلى ذلك كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، فى مذكراتها التى تحمل عنوان (No Higher Honor)، وترجمته باللغة العربية هو «أسمى مراتب الشرف». فتحت عنوان «العراق وجبهتنا الداخلية»، تذكر أول امرأة من ذوى البشرة السمراء تتولى حقيبة وزارة الخارجية الأمريكية أن بلادها انتهجت مسلك الدبلوماسية الناعمة، والتى تقوم على تعاون كل دول جوار العراق. ولكن، وعلى حد قولها، فإن «الدبلوماسية الناعمة كادت تنهار بسبب الكونجرس الأمريكى. جماعة الضغط الأمريكية الأرمينية القوية والنافذة كانت منذ سنين تضغط على الكونجرس بهدف إصدار قرار يعتبر أعمال القتل الجماعى التى ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية بدءاً من عام 1915 جريمة إبادة.. كانت تجربتى الأولى مع هذه المشكلة فى عام 1991 عندما كنت أعمل فى البيت الأبيض فى عهد ولاية الرئيس جورج بوش الأب. حينئذ كلفت بصفتى المساعد الخاص للشئون الأوروبية بالوكالة أن أحشد الجهود للحيلولة دون صدور القرار فى مجلس النواب. فالأتراك الذين كانت مساهمتهم فعالة فى حرب الخليج الأولى، ثارت ثائرتهم لمجرد احتمال أن يوصموا بتلك التهمة فى حادثة وقعت قبل نحو قرن من الزمان على يد العثمانيين. فى تلك الآونة نجحت فى المهمة الموكلة لى. وخلال السنين التى أعقبت ذلك، حاول كل رئيس وكل وزير خارجية مقاومة صدور قرار الإبادة الجماعية الأرمينية المريع. لم يكن السبب أن الجميع أنكروا تلك الأحداث البشعة أو الوفيات المأساوية لمئات الألوف من الأرمن الأبرياء. فالأمر يعود للمؤرخين -وليس للساسة- لأن يقرروا كيف تكون تسمية ما حدث. والآن، فى عام 2007، وفى غمرة التوترات القائمة على الحدود التركية العراقية وحيث القوات التركية فى حالة تأهب قصوى صوتت لجنة الشئون الخارجية فى مجلس النواب لصالح القرار. توسلت إلى رئيسة المجلس نانسى بيلوسى بأن تفعل شيئاً لمنع التصويت، لكنها قالت ما بيدها شىء. أدليت ووزير الدفاع بوب جيتس ببيان للصحافة خارج البيت الأبيض نؤكد معارضتنا، مشيرين إلى أن قادتنا العسكريين فى العراق أثاروا احتمال أن نفقد قواعد مهمة فى تركيا. وجاء ثمانية وزراء خارجية سابقين للتوقيع على كتاب يعارض الإجراء الذى اتخذه الكونجرس بهذا الخصوص. كل ذلك حصل بشأن توقيع قرار يدين شيئاً وقع قبل ما يقرب من مائة عام. استطعنا إقناع الأتراك بأننا سنفعل كل ما يمكن عمله لمنع التصويت فى الكونجرس بكامل أعضائه، وقد فعلنا. إن هذا مثال واحد لنزوع الكونجرس للتلاعب بأمور ساخنة جداً للتدخل فى مسار السياسة الخارجية. وكانت هذه القضية أكثر إثارة للحنق لأن الحكومة الأرمينية المنتخبة ديمقراطياً ليست مهتمة بهذا القرار. بل الواقع أنها كانت تسعى لتحسين علاقاتها مع تركيا، ولم تكن بحاجة له. إن فصل السلطات لم يكن يوماً لفائدة المصالح الأمريكية. ولم تكن الدول راغبة فى تصديق أن رئيس الولايات المتحدة لم يستطع منع التصويت لمثل هذا النوع من القرارات لو أنه أراد ذلك حقاً».. وللحديث بقية.