أصدرت جريدة «الوطن» صفحة متخصصة حول قضايا الإعلام، الشهر الماضى، تحت عنوان «مسار»، تُشرف عليها الزميلة هدى رشوان، وتذيّل الصفحةَ بابٌ تحت عنوان «أسماء لامعة فى بلاط صاحبة الجلالة.. من الصحافة إلى قمة الشهرة».. ونُشرت به صور لأبرز الأسماء، من أول الأستاذ «هيكل» مروراً بمصطفى أمين، وسلامة أحمد سلامة، ومجدى مهنا، ومحمد التابعى، وأحمد رجب، وأخيراً إبراهيم نافع.
بالمصادفة كان لدىّ صديق صحفى من خارج «الوطن» فشاهد الصفحة، وأثنى عليها، لكنه اعترض على وجود اسم إبراهيم نافع، فقلت له إن هذه حقيقة لا يمكن إغفالها، بدليل أن أحد شباب «الوطن»، الزميل إمام أحمد، هو مَن كتب اسمه وليس إدارة التحرير، ووافقتُ على الصفحة كما هى وبها صورة «نافع».
ثم جاءت وفاة الكاتب الكبير وما صاحبها من كلمات طيبة فى حق الرجل، سواء بالصحف أو القنوات أو «الفيس بوك»، لتثير لدىّ تساؤلات عديدة: ماذا لو قرأ الرجل «واحد على مائة» من هذا الكلام قبل وفاته، وماذا كانت ستكون حالته المعنوية وقتها؟ وهل يمكن أن تساهم فى تجاوز حالة المرض؟ بالطبع الأعمار بيد الله.. لكن الموت فى الغُربة بعد سنوات من المهانة أمر يصعب على أحد تحمّله.. أما السؤال الثانى: لو كان «نافع» قد مات دون مرض أو غُربة، هل كان من الممكن أن يحصل على حالة التعاطف الحالية؟ أم أن الظروف هى التى أثّرت؟، خاصة أن المؤيدين والمعارضين تهافتوا على ذكر إيجابياته، ولا أعتقد أنهم عملوا فى ذلك بالحديث الشريف: «اذكروا محاسن موتاكم»، فقد كان يمكنهم الصمت، كما أن معظم مَن أدلوا برأيهم ساقوا وقائع للتمجيد فى المرحوم إبراهيم نافع.
السؤال الأخطر الذى يشغلنى: هل نحن منصفون؟ وهل التاريخ عادل؟ أم أن كل شىء يخضع للظروف والهوى؟ فإبراهيم نافع (الذى شخصياً لم أجتمع معه إلا مرة واحدة فى فندق أوبروى بالمدينة المنورة خلال عمرة رمضان، بالطبع بعد خروجه من «الأهرام»، مع صحبة من الزملاء الأعزاء: الحاج سعد حمزة، والمرحوم محمد عياد، وأحمد البطريق، ومصطفى غراب، وأحمد عامر وجمال السعيد وحاتم عبدالوارث)، كان ملء السمع والبصر لمدة أكثر من ربع قرن، كان يملك القدرة، بل مدرسة، على احتواء المعارض قبل المؤيد، ثم خرج من «الأهرام» عام 2005.. وظلت تسريبات تتحدث عن فساده لا ترقى لدرجة النشر المنظم، ثم جاءت ثورة يناير وفتحت معها مواسير الطعن فى الجميع، وتعرّى المجتمع تماماً، عن حق أحياناً، وباطل فى الأغلب، ولم يستطع أحد -إلا قليلاً- الوقوف أمام هذا الغِلّ الاجتماعى، لدرجة أنه تكرَّس فى أذهان الناس أن الجميع كانوا فاسدين بامتياز، ولم يردّ أحد، فالموجة كانت أكبر، ومارس عدد كبير النضال بأثر رجعى فى جميع المجالات، وتاهت الحقائق رغم عدم صدور أحكام قضائية نهائية.
هل نتعلم من درس موت «نافع» أن ذكر المحاسن بعد الموت فقط ليس له قيمة، وأن الإنصاف يتطلب دائماً أن نكون متوازنين، فلا يوجد شيطان كامل، أو ملاك برىء بين البشر، بل إن كل مسئول له إيجابياته وسلبياته وفقاً للظروف المحيطة به، فلا أحد ينكر قدرات إبراهيم نافع الاقتصادية والإدارية والنقابية، وإلا ما انتُخب 6 مرات نقيباً للصحفيين، وأنه استطاع رفع قيمة وهيبة مؤسسة الأهرام، وللأسف فإن قيمته الحقيقية قد ظهرت بوضوح بعد مغادرته منصبه، ومع ازدياد المشكلات فى المؤسسات الصحفية حالياً.
وعلى المستوى النقابى، قاد ببراعة أزمة القانون 93 لسنة 1995، وأقام مبنى حديثاً، وفى كل ذلك خاض معارك كبيرة، لكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بأن طول فترة أى مسئول تولّد فساداً عشوائياً، سواء كان مشاركاً فيه أم لا، وأن التوسعات فى الإصدارات الجديدة لم تكن كلها قائمة على جدوى اقتصادية.
لقد مات «نافع» مرتين.. الأولى حينما تجاهله الجميع وأهدروا إنجازاته، والثانية عندما التهمه المرض فى الغُربة دون أن يدافع عنه أحد.. لكن يبقى السؤال: هل التاريخ منصف؟ وهل نحن متوازنون؟ أم أن التاريخ يكتب مثل السينما على هوى الجمهور؟ بدليل أنه لو كان مات منذ 6 سنوات فى ظل زخم ثورة يناير، فأعتقد أن الحالة الحالية لم تكن لتحدث.. عموماً موت الكاتب الكبير عبرة للفصل بين التاريخ والهَرىْ!