تكمن مشكلات مجتمعنا الحقيقية في إيمانه الأعمى بآراء ومعتقدات السلف السابقين، إيمان يصل إلى حد التطرف أحيانا، ولا يكون هذا الإيمان عن محبة بقدر كونه حجة نلقى عليها أخطائنا فى حق أنفسنا وفى حق الآخرين، للدرجة التى تجعلنى فى كثير من الأحيان أتمنى أن يبعث هذا السلف حيا؛ كى أتحقق منهم عن حقيقة ما يؤمن ويفعل الناس وفقا لآراءهم.
تحققت أمنيتي السابقة حين قرأت رواية «موت صغير»، للكاتب «محمد حسن علوان»، الصادرة عن دار الساقى عام 2016، والحاصلة على جائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2017.
تناولت الرواية قصة حياة «محيي الدين بن عربي» أحد أعلام الصوفية وشيخ الطريقة الأكبرية؛ مما جعل من محتوى الرواية إجابة للعديد من التساؤلات حول مذهب الصوفية وأتباعه بما لهم وما عليهم.
جاءت الرواية مقسمة إلى عدة أسفار "أجزاء"، معنونة بأقوال مأثورة ل محيي الدين بن عربي، التى اقتبس منها الكاتب عنوان الرواية، كما أهتم بتأريخ تلك الأجزاء؛ مما ييسر على القارئ عملية البحث للتأكد من بعض الأحداث التاريخية التى ورد ذكرها فى الرواية.
تبدأ أحداث الرواية بالبطل «محيي الدين بن عربي» معتكف فى أحد الكهوف فى مدينة "أذربيجان" إحدى مدن تركيا فى ذلك العهد؛ لكتابة مخطوط عن حياته الشخصية ورحلته فى دراسة المنهج الصوفي من الصغر وحتى أصبح أحد أعلامه.
ولد «ابن عربي» فى مدينة مرسية بالأندلس لأب يعمل فى بلاط الخليفة وقد عاصر حصار الأندلس، ذلك الحصار الذى جعله طيلة حياته يطوق إلى الرحيل والسفر، وبالفعل ترك الأندلس ورحل إلى مدينة أشبيلية "شرق إسبانيا" حاليا، وكانت تلك أول رحلات ابن عربي، وأهم محطات حياته حيث عمل كاتب فى بلاط الخليفة وتزوج زيجته الأولى من مريم بنت عبدون.
ضاقت نفس «ابن عربي» بإشبيلية واشتاق للرحيل مرة أخرى فى البلاد ليتلقى العلم عن العلماء ويصاحب الأولياء، فقرر الرحيل للبحث عن أوتاده الأربعة "أساتذته" من يتسلم عنهم علم الصوفية ويشهدون له بالتصوف عن حق وصدق.
بدأت رحلات «ابن عربي» من مراكش فى المغرب ثم مكة المكرمة ليؤدى فريضة الحج للمرة الأولى حتى رحل عنها مرة أخرى إلى مصر حيث تعرض للسجن للمرة الأولى وواجه أتهامات بالكفر نتيجة خطأ البعض فى تفسير مفاهيم المنهج الصوفي، مما أضطره للرحيل مرة أخرى إلى حلب ثم بغداد وملطية.
خلال الرحلات السابقة استطاع الكاتب أن يصف العواصم والمدن العربية وأسماء حكامها بدقة، بالإضافة إلى عادات وتقاليد الشعوب ما بقى منها وما أندثر مما جعل ما يرويه الكاتب صورة متحركة حية تراها أمامك.
كما رصدت الرواية من خلال سيرة «ابن عربي» سبعون عاما من الحياة السياسية ورحلة الحروب التى تعانيها الشعوب إلى الآن بيد حكامها، فكانت البداية من سقوط الأندلس وحتى حروب التتار، وقد جاء ذلك بدقة فى الوصف تجعلها أقرب ما يكون لما يحدث الآن، وتشعر معه بالفعل أن التاريخ يعيد نفسه لأن البشر يعيدون الأخطاء ذاتها فقد عايش ابن عربى حكم الموحدين فى الأندلس والأيوبيين فى مصر والعباسيين والسلاجقة "الأتراك".
أهم ما يتميز به السرد داخل الرواية؛ أن البطل هو راوي الأحداث وهذا النوع من السرد يليق بكتابات السيرة الذاتية، بالإضافة إلى أهتمام الكاتب بسرد الجانب الدنيوي فى حياة البطل، فقد تزوج ابن عربى أكثر من مرة وأنجب البنين والبنات وسعى خلف مباهج الحياة، مما أعطى جانب من المصداقية يشعرك بأنك تقرأ عن إنسان عادي وينفي صفة القدسية عن السابقين من أصحاب الطرق والمذاهب فهم بشر يخطأ ويصيب ويلجأ للتوبة حتى يحقق المكانة التى يسعى إليها.
لم تنفي الرواية شطحات وتطرف بعض أتباع المنهج الصوفي أو من يدعون أنهم أتباعه بالباطل فقد عرض بعض المشكلات والمسائل التى وجهت لابن عربي لكي يوضح أسبابها، لكن الكاتب لم يدافع أو يتحيز لمعتقد أومنهج فهو يروى ويشرح مسائل على لسان البطل وللقارئ الحكم والبحث.
بنهاية أحداث الرواية يبقى تساؤل واحد؛ من أين جاء الكاتب بالمخطوط والكتابات، بالمعنى الأدق لم يذكر الكاتب المصادر التى أعتمد عليها فى رواية الأحداث التاريخية والشخصية منها.
تنتهى الرواية بنهاية ابن عربي المثيرة وتؤكد الأحداث أن الناس يروين عن السابقين ما يناسب أهوائهم، كما تترك الرواية بداخلك يقين أنك كنت بصحبة رحلة ووجهة نظر محايدة تصلح لأكثر من تصنيف؛ إن أتخذت من الرواية خيال ومجرد فكرة بطلها لا يمت للواقع بصلة لن ينتقص ذلك من قيمة الأحداث ومصداقيتها، وإن أتخذتها رحلة فى التاريخ لمرحلة مهمة وشائكة سوف تعود عليك بفائدة كبيرة، وإن أتخذتها حقيقة لا ريب فيها فهى أهل لهذه الثقة، فما بالك وقد اجتمع فيها كل ما سبق فى الرواية بلغة قوية وقلم كاتب واثق ومتقن لما يكتب.