قد يظن القارئ أن هذا المقال خاص برثاء والدتى التى توفيت منذ أيام، لكنه إلى جانب ذلك هو دعوة كريمة من خلال جريدة «الوطن» لتبنى مبادرة عن افتخار كل شخص بوالدته والحديث عنها، سواء أكانت من الأموات أو من الأحياء، ولو أن المدرس حكى لتلاميذه عن موقف جميل لأمه، والأستاذ الجامعى حكى لطلابه عن بره بوالدته، وكل منّا كتب على صفحته موقفاً عن فضل والديه عليه سيكون لذلك أطيب الأثر، وآية من معانى الوفاء فى البر بهما.
وقد حدث قريب من هذا حين تحدث أحد العلماء فى برنامج «ممكن» عن أمه وفضلها وبره بها، مما كان له أطيب الأثر وأعمقه، حتى إن الشباب والفتيات تناقلوا هذا المقطع، وتكرر هذا الموقف مع بعض لاعبى الكرة، وهل ينكر أحد أن كل توفيق يصيبه راجع إلى فضل الله ثم دعاء الوالدين؟!
والحقيقة أن قيم ومبادئ وأخلاقيات وتفانى جيل أمهاتنا -وأكثرهن لم يتلقين تعليماً عالياً- لم تعد موجودة بنفس القدر فى جيل زوجات اليوم، كما أن قيم ومبادئ جيل الآباء لم يعد موجوداً بنفس القدر فى جيل أزواج اليوم.
لقد كان أكثر ما يميز أمى وجيلها كله البساطة الشديدة، ولذلك كل الذى تمنته أمى فى حياتها شيئان، الأول: رفع الذكر، وهو عادة فى قريتنا الواقعة شمال سوهاج وغيرها من القرى، ومعناه قيام أفراد من حاملى الجنازة بترديد كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله)، وينطقون «محمد» بتسكين الميم، وأحياناً يفتحون اللام فى «رسول»، لكن الجملة لها نغمة روحية خاصة حتى باللحن فى نطقها، وصارت مَعْلماً فى الجنائز قبل أن يقتحم العقل الوهابى قريتنا فيزعم أن الذكر بدعة، لأنه يشغل المشيعين عن التفكر فى الموت، وهذا غير صحيح، ومقصد الحديث النبوى الداعى للصمت فى الجنائز لا يتنافى مع سنة رفع الذكر وهى سنة حسنة عملت أمى على إحيائها، وأسجل هنا أن الإمام البوصيرى حين مات شيعه الناس -وفيهم الأئمة والعلماء- بقصيدته المشهورة (البُردة) التى مطلعها أبيات من الغزل.
الوصية الثانية: إقامة سرادق عزاء يُقرأ فيه القرآن، وهى عادة معروفة، لكنها اختفت منذ نحو عشرين سنة إلا عند البعض، بسبب التكلفة المادية من ناحية، وبسبب العقل السلفى الذى زعم أن قراءة القرآن لا تصل للميت، وهذا كذب بواح، بل يصل القرآن للميت وينتفع به، وما زال المسلمون يقرأون الفاتحة لموتاهم، لم يشذ عن هذا الفهم إلا السلفية المعاصرة.
لذلك فإن السمة العظيمة فى جيل آبائنا أنه جيل يملك تديناً طبيعياً ذاتياً، وينفى الخبث، ويرفض التدين السلفى، يرفضه بطبعه، لذلك ترى أمهاتنا لا يرتدين النقاب، وآباءنا لا يلبسون الجلباب القصير، ويعتبرون ذلك عيباً، وتراهم يحبون آل البيت، ويتشوقون لزيارة مقام سيدنا الحسين، وما إن يسمع أبٌ أو أمٌ اسم الإمام الحسين بن على إلا ويسلم عليه، ويطلب الدعاء من الله عنده.
إن البر الحقيقى لوالدينا يكون بالتصدق على أرواحهم والدعاء لهم، والافتخار بهم مهما كانت مهنتهم أو صناعتهم أو مستوى تعليمهم، بل موضع افتخارنا بهم أنهم أحسنوا تربيتنا مع أنهم لم يدخلوا جامعات، ثم علينا التخلق بأخلاقهم فى البساطة والكرم، واقتفاء أثرهم فى عبادة الله بالتدين المصرى العادى الطبيعى، ونبذ التدين الشكلى السلفى الغارق فى التشدد.. رحم الله الجميع.