مقال الأسبوع الماضى «الألعاب الخشنة فى الفضاء السورى»، اختير اسمه عندما بدا هنالك ثمة فصل من التناحر الخشن، ما بين القوى الفاعلة فى فضاء المأساة السورية. فالثابت أن تاريخ السابع من فبراير وما جرى فيه، سيظل عملية كشف لبعض من أغطية «أوانى الضغط»، التى يضطرم داخلها أحداث وصراعات. على الأقل؛ لم يجرِ حتى تاريخه الاتفاق بشأنها.
كنت أميل لقراءة مشهد الكشف المفاجئ للمجموعة العسكرية الروسية الخاصة «واجنر»، باعتباره لطمة استخباراتية أمريكية موجهة إلى قيادة أركان القوات الروسية العاملة على الأراضى السورية منذ سنوات. بالنظر إلى أن شركة «المرتزقة الروس» الخاصة تنفذ مهام على الأرض منذ سنوات، تحت سمع وبصر الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، باعتبار كليهما كان طرفاً فى صياغة «قواعد اشتباك» مع القيادة العسكرية الروسية. تلك القواعد تتم بين العسكريين لكن يحضرها الطرف الاستخباراتى، أو يحاط علماً بتفاصيلها الكاملة، وفى هذه الحالة كان الطرفان الأمريكى والإسرائيلى سابقين فى الوصول إلى الساحة السورية، ما استلزم على الروس لاحقاً طرق أبوابهما برفق قبل الدخول، لضمان القدر المقبول من السماح جوارهما بالعمل الذى لا يحتمل أخطاء السلاح.
لا أحد يطلع على «قواعد اشتباك» كهذه سوى طرفيها، وبالمطلق لا تخرج للنور حيث تتحرر فيها ألسنة طرفيها، تماماً كما يتحرر ويتكشف بعض من الأهداف الاستراتيجية التى يتم تبادلها والسماح بها. ليظل ما دار خلف الأبواب العسكرية من الممكن قراءته جزئياً بمعرفة الأطراف الأخرى، على سبيل تحليل وقائعه على الأرض، خاصة عند تجاوز خطوط تم ترسيمها واعتمادها.
فى هذا الصدد؛ استطاعت بعض القراءات السابقة تحديد خط الفرات، باعتبار شرقه محظوراً على القوات الروسية أو حلفائها تجاوزه. كما هناك تعهد روسى على الجزء الجنوبى من الخريطة السورية، يضمن «حرماً آمناً» للشمال الإسرائيلى لن تتعرض منه لثمة تهديد أو اعتداء. لذلك عُدّ ما جرى فى السابع من فبراير، وما استتبعه من ألعاب الجو واستهداف الطائرات، باعتباره إخلالاً جسيماً بـ«قواعد الاشتباك».
تبقى مساحة يجدر الإشارة إليها وفق هذا السياق. فالاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية على علم تام بـ«مجموعة واجنر» الروسية، والأخيرة تعلم بعلمهما. لكنهما يظلان لفترة قادرين على التمرير، لاحتياجهما أولاً لتمريرات مماثلة من الجانب الروسى الذى له أعين يمكنها الرؤية أيضاً، وثانياً أن معلومة ثمينة بقدر وجود «مرتزقة روس» على أرض المعركة، لها توقيت مثالى لكشفها، تحقق خلاله أكبر استفادة ممكنة للطرف الآخر، باعتبار امتداداتها التى منطقياً ستتجاوز العسكرى إلى أبعاد سياسية ستتخبط حتماً فى «سوء السمعة» التى ما زالت قرينة مثل تلك المهام الخاصة.
ما يؤكد أننا إزاء مواجهة استخباراتية أمريكية مع روسيا حان موعدها، قد تمتد طلقاتها لتتجاوز الحدود السورية، ربما لتصل إلى مشارف انتخابات رئاسة الكرملين فى مارس المقبل. فبعد أيام من انتزاع الاعتراف بـ«مجموعة واجنر» من الخارجية الروسية؛ ظهر الخميس الماضى تقرير على «واشنطن بوست»، ليستكمل القصف المفهوم أنه ليس صحفياً. فقد ذكر أن الاستخبارات الأمريكية اعترضت، يناير الماضى، اتصالاً ما بين رجل الأعمال الروسى «يفيجينى بريجوجين» الشهير بـ«طباخ بوتين» وبين مسئول كبير بنظام الأسد، يخبره الأول فيه بحصوله على الضوء الأخضر للمضى قُدُماً فى تحرك «سريع وقوى»، من شأنه أن يحدث فى فبراير الحالى. وتعتقد الاستخبارات الأمريكية بصورة مؤكدة أن «بريجوجين» يتحكم فى المرتزقة الروس الذين يقاتلون فى سوريا، وأن دوره يتجاوز التخطيط للهجوم الذى جرى فى السابع من فبراير. فهو قام وفق الاستخبارات الأمريكية بإجراء تنسيق عميق، تحدث عنه «طباخ بوتين» باعتباره «مفاجأة جيدة» مع طرفين هما المفاجأة بحد ذاتهما، الأول وزير شئون الرئاسة السورية منصور فضل الله عزام، والثانى رئيس ديوان الرئاسة الروسية أنطون فاينو!
وزارة الخزانة الأمريكية أفصحت عن امتلاك «بريجوجين» شركة روسية سجلت فى إحدى ضواحى موسكو يونيو الماضى، تحت اسم «يوروبوليس». وأن الشركة وقعت مذكرة تعاون مع وزارة النفط والثروة المعدنية السورية، مثل فيها وزيرها على غانم الجانب السورى. ملخصها أن تقوم «يوروبوليس» بضمان الاسترداد والسيطرة بالاعتماد على «جيش خاص»، على حقول النفط والغاز السورية التى ظلت بحوزة «داعش»، قبل أن تنتقل الآن إلى الوحدات الكردية، مقابل حصول «طباخ بوتين» على حصة (25%) من إنتاج هذه الحقول.
السبب فى إطلاق لقب «طباخ بوتين» على «بريجوجين»، فى قطاع الأعمال الروسية، هو صعوده الصاروخى لسلم أصحاب البلايين. حيث بدأ «متعهد توريد» وجبات فاخرة لحفلات الكرملين، ليحصد بعدها كل عقود وزارة الدفاع الروسية فى قطاعات التغذية والخدمات. ويقفز الرجل فى سنوات معدودة من «ملك قطاع المطاعم» إلى قطاعات أوسع، على خلفية الحرب فى أوكرانيا وبعدها فى سوريا. ليستقر الآن بعدهما كمتعهد لـ«الحروب الخاصة»، بعد حصاد ملايين الروبلات التى دفعته للدخول على نشاط السيطرة وحماية المنشآت النفطية عبر «الجيوش الخاصة»، وإدارتها لحساب الأنظمة فى مقابل نسب مئوية تختلف من مكان لآخر. ولهذه الصفقة الجديدة زار «بريجوجين» قاعدة «حميميم» مؤخراً مرتين على الأقل، للقاء القادة العسكريين الروس حيث طلب منهم ترتيب لقاء ما بينه وبين فصائل وميليشيات عاملة على الأراضى السورية، لإدماجهم فى الاتفاق النفطى بجوار «مجموعة واجنر».
قوة الهجوم فى السابع من فبراير، تبين لاحقاً أنها كانت تستهدف موقعين، هما أهم معمل لمعالجة الغاز فى سوريا «كونوكو» وحقل «العمر» النفطى. قبل أن يرد الطيران الأمريكى بقصفها، ويوقع من صفوف الروس ما يقارب الـ«150 قتيلاً»، وصفهم أحد القادة الروس بأسى: «هم موجودون فى ثلاجات الموتى بمقر واجنر فى سوريا، كمثل «اللحم المفروم» حيث تم سحقهم فى مهمات عشوائية»، بحسب وجهة نظره.