استمرار القتال فى الغوطة الشرقية رغم صدور القرار الدولى 2401 الخاص بفرض هدنة فى جميع الأراضى السورية لمدة شهر لأغراض إنسانية، على أن تبدأ فوراً ولكن بدون تحديد موعد محدد، يعنى ببساطة شديدة أن عمليات تعديل التوازن على الأرض لن تتوقف فى المرحلة المقبلة، الحكومة السورية موقفها واضح فالهدنة لا تعنى إطلاقاً التوقف عن تطهير الأراضى السورية من الجماعات المصنفة دولياً بالإرهابية ومن يعمل تحت مظلتها أياً كان الاسم الذى يحملونه، وفى الغوطة التى تستقطب الأنظار حالياً هناك النصرة (وهى فرع القاعدة فى سوريا) وتنظيم داعش، وهما جماعتان إرهابيتان دولياً، وأيضاً توجد فصائل مسلحة أكبرها جيش الإسلام وفيلق الرحمن، وكلاهما يحصل على دعم مالى وسياسى وتسليحى من قوى إقليمية كتركيا وقطر وغيرهما، إضافة إلى تنظيمات صغيرة تسيطر على شوارع بعينها أو أحياء محدودة بالتنسيق مع الجماعات المسلحة الأكبر.
تتشارك هذه الجماعات رغم اختلافها الفكرى فى ثلاثة عناصر؛ أولها تهديد العاصمة دمشق بصورة تكاد تكون يومية عبر إطلاق القذائف العشوائية، وثانياً أنهم جميعاً ينظرون إلى دمشق والدخول إلى قلبها باعتبارها المعركة الأخيرة المنتظرة، التى سوف تقضى على النظام تماماً وتحقق لهم النصر المأمول، وثالثاً أنهم يسيطرون على حركة الحياة اليومية للمدنيين فى مناطق وجودهم من حيث فرض الخوات والإتاوات على الأنشطة التجارية حال وجودها، ويسيطرون على المعونات عند ورودها، ويجندون الشباب فى صفوفهم أو التعرض للقتل والتعذيب، وعموماً فالمدنيون الأبرياء فى هذه المناطق المنكوبة بمثابة رهائن ودروع بشرية لهذه الجماعات المسلحة.
والخلاف شبه الوحيد بين تلك الجماعات يكمن فى أن كلاً من جيش الإسلام بقيادة محمد علوش، وهو أحد أطراف الهيئة العليا للمعارضة السورية ومقرها الرياض، وفيلق الرحمن المدعوم من تركيا وقطر يعتبران نفسيهما قوة معارضة مسلحة مشروعة، وأن وجودهما فى الغوطة الشرقية غير قابل للمساومة، ويرفضان حسب البيانات الصادرة عنهما كل على حدة الخروج من محيط العاصمة دمشق مهما كانت الضغوط العسكرية ويهددان بالمقاومة ومواجهة الجيش السورى أياً كانت التداعيات، وكلاهما يتحسب فى الواقع من فكرة الخروج إلى ريف إدلب أو إلى مناطق أخرى قد لا يجدان فيها بيئة حاضنة، أو تكون مؤهلة للوقوع فى حصار أكبر مما هو عليه الوضع فى الغوطة الشرقية، ويتفقان معاً على أن وجود بعض مسلحين يتبعون النصرة أو داعش لا يبرر للجيش السورى أن يقوم بأى حملة عسكرية لتطهير المنطقة، وإن كانا فى بعض المواقف وبصورة ملتبسة يبدون قدراً من التفهم بضرورة خروج هؤلاء نظير وقف العمليات العسكرية للجيش السورى، وفى الوقت نفسه أن يستمر وجودهما المسلح وبما يهدد العاصمة دمشق.
الغوطة نظرياً هى واحدة من مناطق خفض التوتر التى تم التوصل إليها سابقاً فى إطار ما يعرف بتفاهمات الأستانة وضمانات كل من روسيا وإيران وتركيا، وفى الخلفية الولايات المتحدة، بعض المناطق كحلب وجنوب سوريا تبدو مستقرة نسبياً وقليلة أو محدودة الاختراقات، والبعض الآخر كريف إدلب والغوطة الشرقية لم تستقر أحوالها لأسباب تتعلق باختلال التوازن سواء بين سلطة الدولة السورية بوجه عام وبين الجماعات المسلحة سواء المصنفة إرهابية دولياً أو التى يعتبرها البعض قوى معارضة معتدلة أو مشروعة. وفى بعض التفسيرات المتكررة بشأن خصوصية الوضع فى الغوطة ليس فقط قربها الجغرافى من العاصمة دمشق، التى تمثل الرمز الأعلى لسيادة الحكم، بل أيضاً المناورات التى تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها بما فى ذلك تركيا من أجل إسقاط الهيبة عن إعلان الانتصار الروسى على تنظيم داعش، وتوريط موسكو والرئيس بوتين شخصياً فى مستنقع لا قرار له، وفى المقابل يفسر هؤلاء شدة الحملة العسكرية على الغوطة بأنها نوع من الانتقام الروسى لمحاولات إفشال مشروعها السياسى والاستراتيجى فى سوريا.
فى ظل هذه التشابكات يبدو المنظور السورى الرسمى الأكثر وضوحاً من زاوية التأكيد على الحق المطلق فى مواجهة الجماعات الإرهابية والمسلحة، سواء فى مناطق خفض التوتر أو فى أى مكان آخر، ومواجهة الوجود العسكرى غير المشروع لكل من الولايات المتحدة فى مناطق الشمال الشرقى ذات الأغلبية الكردية، والوجود العسكرى التركى الساعى إلى احتلال دائم لمناطق محددة من شمال شرق سوريا فى عفرين ومنبج ومثلث مدن جرابلس والباب وإعزاز. هذا الموقف السورى تقيده عملياً القدرات المتاحة بشرياً وتسليحياً، كما يصطدم أحياناً مع التفاهمات التى تتم بين القوى الدولية والإقليمية الموجودة على الأرض السورية والضغوط الإسرائيلية التى تمارس علناً أو من خلال واشنطن وأحياناً موسكو، والمرجح أن التنسيق السورى الإيرانى لن يهدأ له بال إلا فى حال التأكد من أن العاصمة دمشق باتت مؤمنة تماماً، وأن القذائف التى اعتادت الجماعات المسلحة إطلاقها وتعدت 1200 قذيفة على أحياء دمشق بعضها أمريكى الصنع، ووصل بعضها إلى السفارة الروسية ومناطق سكنية مدنية متفرقة لن تحدث مرة أخرى، وهذا يعنى أن يتم التطهير الكامل لأراضى الغوطة الشرقية أياً كانت التكلفة، وأياً كانت الضغوط السياسية والمعنوية والحملات الإعلامية التى تركز على إصابات المدنيين جراء العمليات العسكرية براً أو جواً.
ومن المفارقات هنا أن تركيا أعلنت التزامها بقرار وقف إطلاق النار فى المناطق التى تسيطر عليها مباشرة أو من خلال الجماعات العميلة لها، ولكنها أيضاً استثنت ما تعتبره الجماعات الإرهابية وفقاً لمفهومها الخاص، وهم أكراد سوريا أصحاب الأرض فى الشمال الشرقى لسوريا، ومع ذلك لم يوجه أحد أى انتقاد لهذا الموقف التركى رغم كونه غير مشروع على الأقل من وجهة نظر القانون الدولى.
فى ضوء تلك الخريطة من المواقف والنوايا المعلنة أو المضمرة، يبدو تطبيق القرار الدولى الأخير مؤجلاً بعض الوقت إلى أن يتم حسم معركة حماية دمشق، وربما يتم تطبيقه جزئياً فى مناطق أخرى أقل صخباً مثل جنوب سوريا وبالقرب من الحدود السورية الإسرائيلية ومناطق محدودة فى حلب، أما ريف إدلب حيث تتجمع عناصر النصرة وداعش ومجموعات مسلحة من جنسيات آسيوية مدعومة تركياً، فالوضع سيظل يتسم بالقلق والتعرض للتغير الجذرى فى أى لحظة، وما دامت القوى النشطة على الأرض السورية غير مقتنعة بما هو تحت أيديها وترغب فى المزيد من التوسع، ستظل القرارات الدولية مجرد نوايا حسنة لتغطى على الجرائم ضد الإنسان السورى باسم الحرية والمعارضة والسيادة.