أصاب المصريون بالخارج غالبية المراقبين لانتخابات الرئاسة بقدر ملحوظ من الدهشة. وراح كل من تابع المشهد عبر البث المباشر من أمام السفارات والقنصليات المصرية، فى عواصم ومدن العالم المختلفة، يختار ما يحلو له ليمزجه بتلك الدهشة، فعادة ما تأتى تلك الأخيرة ممزوجة بشىء ما، بحسب زاوية الرؤية ومواقع الأقدام والأقلام من الحدث.
أصحاب الفطرة الوطنية السليمة مزجوا دهشتهم بفرحة كبيرة وجدوها تحاصرهم، حتى رغماً عن البعض منهم. فرحتهم كان مبعثها الأصيل أن المصرى شقيق الوطن حاضر فى أحداثنا بأقدام ثابتة فى المكان الصحيح. المؤيد الكامل للنظام لم يجد صعوبة فى الاستسلام السريع لشعور الفخر الذى داهمه فى ساعات الصباح الأولى عندما أتت تحمل معها أخبار وصور الوجود الكثيف للمصريين فى اليوم الأول للانتخابات. والمؤيد بحساب لما جرى فى مصر خلال سنوات أربع مضت قلب المشهد الذى يجرى فى طول بلدان العالم وعرضها، وبدأ يضع يديه على الكثير من إيجابيات الفعل الذى يتكون أمامه، حيث وجده يلخص سلوكاً رشيداً يخدم الدولة المصرية، فضلاً أن القائمين على صناعته مصريون يعملون ويعيشون خارج الوطن عندها وضعه فى خانة الخدمة المضاعفة، وترك شعور السعادة يتسلل إليه على مدار اليوم، فمعنى هذا الوجود الإيجابى أنه، وبرغم كل شىء، هناك أمامه آفاق رحبة من التفاؤل.
بالمناسبة، الرئيس عبدالفتاح السيسى ينتمى إلى النوع الثانى مما جاء بعاليه، فهو ممسك على مدار الساعة بالحساب الذى يجعله يقلّب الأمر على مختلف أوجه تمامه أو إنفاذه، ويحمل بداخله الكثير من القلق الذى لا يهدأ، كون المشهد العام ما زال بغير قدر الطموح الذى ينشده، ولذلك كان ما أهمّ الرئيس فى تلك العملية الانتخابية هو مشاركة المصريين باعتبارها فعلاً مؤسساً لتجربة وطنية جديدة، فالرئيس وصف هذا الدور قبلاً وأوصى بأن يمارسه المواطن وكأنه يختار زوجاً لابنته، وهو إيجاز مكثف لأهمية تتجاوز بكثير أرقام المشاركين.
هناك آخرون ارتضوا مبكراً أن يظلوا خارج السياق الوطنى، وارتاح البعض منهم للانحياز إلى تفسيرات بائسة لما يجرى على أرض الوطن من أحداث والكثير مما يدور فى المحيط الإقليمى والدولى. هؤلاء خلطوا عمداً بين الاختلاف على أجندة ونتائج العمل التنفيذى وبين المشروع والثوابت الوطنية، وإن كان الأول يظل حقاً مشروعاً ويخضع للتقييم والانتقاد طوال الوقت، لكن تبقى الثوابت الوطنية حجراً لزاوية لا يجوز هدمها أو تشويهها بأى صورة. انقسم هذا الفصيل بين العديد من ردات الفعل على مشهد المصريين بالخارج فى صفوفهم الطويلة المفاجئة، فالبعض منهم أسرع بإغلاق عينيه وصمت تماماً، فمحاولة الاقتراب للفهم ستكون بمثابة هدم كامل لما يقف عنده، فهناك على أرض الواقع الآلاف ممن يصدقون مشروع النظام الحالى. وقبل ذلك لم تفلح دعوات المقاطعة التى سُطّر فى تنظيرها عشرات الآلاف من السطور لإقناع الكتلة الأكبر التى تعيش فى أعرض مساحة من الحرية والتنوع، بالنظر إلى البلدان والمجتمعات المختلفة التى يعيشون فيها. وبعيداً عن تنوع ردات الفعل داخل هذا الفصيل، حتى امتدت من الإساءة للمشاركين وصولاً إلى وصم المشهد برمته بالمزيف! ربما قد يكون من الأوفق لهؤلاء الآن أن يمارسوا وقفة مع النفس لضبط المفاهيم والمصطلحات. وقد يصل الأمر لتصحيح علاقتهم بالواقع المصرى، فقد ظل تغريدهم يطرب «الجيتو» الذى يعيد إنتاج نفسه مع كل حدث، تماماً كما نتابع وسائل إعلام بعينها، حيث يظل نقلها لـ«عملية إرهابية» وتعليقها عليها لا يختلف كثيراً فى مضمونه عن «يوم انتخابى»، طالما أن الأمر له علاقة بمصر، فالذين يزيفون أعداد الشهداء من رجال القوات المسلحة والشرطة، ويُبدون شماتة تنضح من السطور والمانشيتات، هم أنفسهم من وجدوا لجان الاقتراع «خاوية».
لهذا الفصيل، الذى يضم فى رحابه الإخوان وغيرهم، يبقى لهم كلمة صادقة عليهم أن يقفوا قليلاً أمامها. بعد مشهد المصريين بالخارج لهم أن يتأملوا أسوار الزيف التى أحاطوا أنفسهم بها، ولهم أن ينقوا طرحهم المرتبك الذى يتسلح دوماً بالذرائع قبل أن يتساءلوا فيما بينهم «لماذا لا يصدقهم أحد، ولا يسير فى ركابهم سوى أشباههم»، فقد يكون الجلوس على جانب الطريق سهلاً؛ طالما اقتصر الفعل فيه على إطلاق سهام التهكم، واستهلك الوقت فى الثرثرة بديلاً عن الفعل، لكن الخطير فى هذا الجلوس المريح أن الزمن يسير ولا ينتظرهم، والأسوار التى أحكموا بناءها، إما تخنقهم خلفها أو تنهار على رؤوسهم.
المصريون والمصريات أبناء زمانهم، أصحاب هذا الحدث المحمَّل بكافة أنواع الرسائل، لمن يريد أن يقرأ أو يعى، التقطوا الإشارة المقبلة إليهم عبر آلاف الأميال من قلب وطنهم، وفككوا شفرتها ببراعة لم تلبس الأمر عليهم. أدركوا سريعاً أن انتخابات الرئاسة اختبار تعبره الدولة المصرية بين حدين لا ثالث لهما، مشروع حقيقى جامع للدولة الوطنية، أو سيولة مشروعات مشبوهة يعج بها الإقليم، ظلت مصر مستهدفة لأن تُضرب به كغيرها من الدول الشقيقة. لذلك جاءت بسهولة لدى هؤلاء الناظرين علينا من بعيد تلك الرغبة الاحتفالية التى مارسوها أمام لجان التصويت، فقد كان الأمر احتفاء بعودة الوطن والتأكيد على وجوب دعمه. المصريون بالخارج مزجوا عملهم باليقين الذى سكن تلك المعادلة عندما لخصت الحروف معانى كثيرة وغالية عليهم فى جملة وُضعت كـ«هاشتاج» فرح على صفحاتهم، الجنود فى الميدان والشعب فى اللجان.
لم يخلُ صدر أحد ممن انتظم وخاض الصفوف من شعور المقاتل القابض على سلاحه والجاهز كى يضحى وقتما لزم الأمر، مما دعا للحرص على توثيق لحظات وجودهم، وأن يكون أبناؤهم معهم، فالمستقبل يُصنع لهم وأمام أعينهم، والشهداء منا لم يقدموا دماءهم وحياتهم إلا من أجل الطموح فى هذا الغد الآمن.