وصلتنى رسالة من الطبيبة الكبيرة الدكتورة «جليلة لطفى»، وقد امتلأت رسالتها بمعانى الوفاء والحب للوطن، والوقوف مع الجيش وهو يحارب الإرهاب فى سيناء، وهذا ليس بمستغرب منها ولا من أسرتها ولا عائلتها، فقد رضعوا لبان الحب والتفانى والوطنية من والدهم فارس سيناء وشيخ المحامين المرحوم «محمد سعيد لطفى» (1930- 1998م)، الذى غرس فيهم عشق الوطن، وإنكار الذات.
يحكى اللواء «عادل فؤاد» مدير المخابرات الحربية، أن المرحوم كان يرهب الصهاينة ببطولاته ومواقفه الجليلة، فقد دعانى لأمر مهم فتقابلنا فى مهمة سرية فى جسر عمان بالأردن، وأخبرنى بمعلومات عن الخطة الصهيونية لعزل سيناء عن مصر، فقمنا بتوصيل هذه المعلومات للرئيس عبدالناصر، فأمر بمجاراتهم والتظاهر على ذلك، حتى إنهم أقاموا مؤتمراً كبيراً مشهوراً، ويومها حدثت الكلمة الشهيرة التى ألقاها الشيخ البطل «سالم الهرش»، وتم القبض على سعيد لطفى، وأمام القاضى اليهودى قال كلمة نافذة قوية لا تصدر إلا من الرجال الأبطال: (أيها القاضى: هل دولة الفاتيكان وإقليم كشمير دولة داخل دولة؟ قال القاضى اليهودى: نعم، فقال المرحوم سعيد: اعلم أن سيناء لن تكون دولة داخل دولة أبداً)، وقد حدث له ما أراد، وبقيت سيناء جزءاً من أرض مصر، وكما قال للقاضى: (سيناء لن تكون دولة داخل دولة)، فإن أسرته اليوم تقولها واضحة لكل متطرف غادر على أرض سيناء من الخونة والمتطرفين. وكان البطل «محمد سعيد لطفى» أول المستقبلين للرئيس الراحل «السادات» حين جاء لرفع العلم المصرى بشمال سيناء، وقامت طفلة قدمت للرئيس باقة الورود، وهذه الطفلة كبرت الآن، وهى البنت الصغرى للشيخ سعيد.
أما إذا أتى الليل فنجد هذا الفارس يتفرغ لكتابة منشورات تحث الناس على مواجهة اليهود، وتندد بالاحتلال الصهيونى، وهذه المنشورات وجدها نجله الكبير فى مكتب والده.
وتتجلى صورة ناصعة من مواقف وبطولات «محمد سعيد لطفى»، ولكنها صورة وطنية داخلية، فقد واجه الفساد فى سيناء وقاومه، فبعد أن عادت سيناء لحضن مصر، قاوم الفساد الذى وقع فيه المحافظ، مقاومة من يبنى ولا يهدم، مقاومة من ليس له مصلحة شخصية، فقد اشتهر المحافظ آنذاك بفساده، وفى أول احتفال بعودة سيناء جلس السادات وبجواره هذا المحافظ، وأمام الجميع قام وأعلنها صراحة: غيِّر يا ريس، وقد فهمها السادات، فقام بالتحقيق مع المحافظ، وثبتت الاتهامات فعزله.
كما أن للفقيد صوراً مضيئة فى الحياة كأريج مزهر، فهو أب لثمانية من الأبناء، ولم يكن له أى مصدر رزق، ومع أنه عمل بالمحاماة فإنه لم يتكسب منها، ولم يطالب أحداً بمقابل لعطائه، وكان -رحمه الله- كثير البذل والإنفاق فيما تحت يده، مع أناقة ظاهرة فى ملبسه، ونبالة معهودة فى كلامه، وتشجيع عاطف للصغار.
وهكذا تعددت مواقف هذا البطل فى التفانى والكرم والتواضع وعزة النفس، فقد كان يهدم الفساد بيد، ويقاوم الاحتلال بيد أخرى، ويعلِّم ويربى بيد ثالثة، ويزداد تألقاً هنا، وارتقاءً هناك، واليوم إذ أقدمه للمصريين عبر هذا المقال بجريدة الوطن، ليكون نموذجاً مشرفاً، يملأ النفس مهابة ووطنية واحتراماً، فإننى أدعو أسرته لجمع مواقفه حتى تخرج فى كتاب ينتفع به المصريون جميعاً، وليكون هذا الكتاب نبراساً يمثل خطوات على طريق استعادة الثقة، ويعيد الحفر والتنقيب عن التجارب المصرية العريقة، مثل تجربة هذا البطل، وكيف تعامل مع الأزمات الخانقة، والمواقف الصعبة.. رحم الله الفقيد، وألحقه بالنبيين والصديقين، وسلام عليه فى الخالدين.