«من ظن أن غزة تنزف فليراجع نفسه.. إنما غزة تتبرع بدمائها لأمة أصبحت بلا دم»..
لافتة رفعتها سيدة فلسطينية والمجزرة الإسرائيلية على أشدها هناك على الحدود الجنوبية، بينما تحتفل إسرائيل بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. كلمات تحمل كل معانى العار أمام الصمت العربى المقيت وتتجاوز آهات الشعب الذى يعيش نكبة ثانية لن تجزعه أو تجعله ينكسر أمام رياح عاتية تحاول اقتلاع جذوره الضاربة فى عمق التاريخ، فهى أرض الأجداد الكنعانيين منذ ما قبل سيدنا إبراهيم عليه السلام، مخجل ومعيب أن تشكو الدول العربية لمجلس الأمن فقط، بينما هى قادرة على مساندة الفلسطينيين وأن يجتمع وزراء خارجيتها فى الجامعة العربية لإصدار بيان هزيل لا يختلف كثيراً عن مئات البيانات والقرارات التى اتخذت بشأن فلسطين على مدار تاريخها، مخجل أن تقف الأمة عاجزة عن الفعل بينما بمقدورها أن تفعل لو أرادت؟ لكن ما يحدث يكشف عن مدى التواطؤ والتأكيد على ما كان يتم تسريبه بالمباركة العربية لما يحيكه ترامب من خطط لتمرير صفة القرن حتى لو كانت على جثث الفلسطينيين، وقفت غزة السجينة فى مربع لا يزيد على 360 كيلومتراً مربعاً صامدة أمام قصف الطائرات ونيران القناصة الإسرائيلية، معلنة رفضها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس إلا على جثث أبنائها ليسقط الشهيد تلو الشهيد ومن جرح منهم أصابته هيستيريا البكاء، مردداً «لن نسمح بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس»! تتغنى إسرائيل بقوة جيشها وتخشى سيل المتظاهرين العزل الزاحفين بالآلاف نحو السياج الحدودى الفاصل الذى زرعته، كما تزرع الألغام لسحق الحياة.
هذا المشهد الذى تكرر عبر عقود من الاحتلال، توجته مجزرة مسيرة العودة الكبرى فحصدت أكثر من 60 شهيداً مرشحين للزيادة، و2771 جريحاً ومن الإصابات 54 حالة حرجة، 76 إصابة خطيرة وبين الشهداء ستة أطفال دون عمر 18 عاماً، 1359 إصابة بالرصاص الحى، 90 إصابة بالرأس والرقبة، 62 إصابة بالصدر والظهر، 54 إصابة فى البطن والحوض، مجرد أرقام تتناقلها وسائل الإعلام مشفوعة بالصور لجرحى وشهداء وصرخات وعويل، تخرج الإدانات من أفواه المسئولين الدوليين على استحياء وتلحق بها حملات الاستنكار والشجب العربى كضجيج بلا طحين، ويخرج مسئولو البيت الأبيض مدافعين عن حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها إيماناً وقناعة بحقها التاريخى الوجودى! وإرضاءً لغرور تيار متطرف لتعزيز شعبيته هم «المحافظون الجدد»، الذى بدأ ينتشر بشكل واسع فى المجتمع الأمريكى، والساعين لإدخال تغييرات جذرية على السياسة الخارجية الأمريكية، سواء تجاه منطقة الخليج أو الأمم المتحدة. وقد توسع نفوذ المحافظين الجدد داخل دوائر الحزب الجمهورى خاصة، كما هيمنوا على معاهد الدراسات السياسية والمكاتب الاستشارية التى تمد مختلف أجهزة الإدارة بالتحليلات والأفكار والاستراتيجيات، فنجد مثلاً البعد النضالى واضحاً فى سلوكيات كتاب المحافظين الجدد، فلا يترددون أحياناً فى الإمضاء جماعياً على رسائل «احتجاج» مفتوحة توجه إلى البيت الأبيض خاصة بعد هجمات سبتمبر. واللافت أن هؤلاء وجدوا فى الكنيسة اليمينية المتصهينة الحليف الطبيعى، مستوحين أفكارها الإنجيلية التى تشارك «مصير إسرائيل» فى نظرهم!!.
المجزرة الجديدة التى تسبب بها ترامب وأذنابه لم تكن الوحيدة ولن تكون الأخيرة فى مسيرة النضال الفلسطينى. يعتقد ترامب وإسرائيل أن تحقيق وعده بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها هو بداية الطريق لإنهاء صداع قضية الصراع الطويلة والشاقة فى الشرق الأوسط والمستمرة منذ عقود وإغلاق ملفها إلى الأبد فى عهده! مزهواً بحسم ما عجز عن تحقيقه كل الرؤساء الأمريكيين السابقين، تماماً مثلما بدأت فصول المأساة فى عهد الانتداب البريطانى، ومنذ وعد بلفور المشؤوم الذى منح من لا يملك لمن لا يستحق، لكن وكما اعترف الصحفى الإسرائيلى بن كسبيت من «معاريف» قائلاً: «الذى لا يجد طريقة أخرى لوقف زحف الفلسطينيين، وبالرغم من إنجازات الجيش الإسرائيلى بمنعهم من عبور السياج الحدودى مع غزة، فإن الأخبار السيئة هى أن الفلسطينيين ما زالوا هنا، لن يذهبوا إلى أى مكان آخر وسينهضون فى صباح اليوم التالى حتى لو كانوا أكثر يأساً بقليل من اليوم الذى سبقه».