لطالما كانت الإسكندرية مدينة ملهمة. وهى، بتاريخها الحضارى، ونزعتها الكوزمبالتينية، وتنوعها الثرى، ومناخها الآسر، ظلت بقعة استثنائية على صُعد الجمال والتعايش.
بعدد سكانها المحدود، قياساً بغيرها من المدن المصرية الكبرى، وباتصالها بالبحر، وبالحضارة الأوروبية، وباعتمادها على الأنشطة السياحية، كونها أحد أهم المصايف فى البلاد، كان من المفترض أن تظل الإسكندرية موطناً للراحة والاستمتاع، ومبعثاً للبهجة والارتياح.
لكن ما يحدث للإسكندرية منذ سبعينات القرن الفائت، يأكل روحها، ويغير طبيعتها، ويسحبها إلى محيطها الغارق فى العشوائية والانفلات ومخاصمة الجمال، فيخصم منها كل يوم ميزة، ويضيف إليها عبئاً.
تقاوم الإسكندرية بمواردها الطبيعية، وقدر من الثقة فى قدرتها على النجاة، وبتاريخ معتبر من البهجة والاحتفاء، لكن مقاومتها تضعف، وتكاد تنتهى بالاستسلام للغزو القبيح، الذى لم يوفر بقعة من تراثنا العمرانى والجمالى.
ثمة الكثير مما يمكن أن يقال فى رثاء الإسكندرية، مثل اغتصاب ثروتها العقارية الثرية، وتحويل فيلاتها وقصورها الأثرية الممتلئة جمالاً وفناً إلى أبراج سخيفة، وتشويه عمرانها وتنظيمها المشابه لمثيلاتها على الساحل الأوروبى، وتحويله إلى كيانات خرسانية قبيحة، تطرد الشمس من شوارعها، وتضغط على مرافقها، وتسلب شخصيتها.
من الصعب أن تجد أرصفة يمكن أن تسير عليها فى الإسكندرية، ولا توجد آلية صرف ملائمة يمكن أن تستوعب القليل من المطر الذى يداوم على زيارتها بين حين وآخر، فضلاً عن زحف «التكاتك» على شوارعها، وجرائم «الميكروباص» التى لا تتوقف عن إدهاشنا يوماً بعد يوم.
فى زيارتى الأخيرة للإسكندرية، خلال عطلة نهاية الأسبوع، رغبت فى ممارسة عادة عمرها عشرات السنوات، وهى الجلوس على أحد المقاهى مساء، للاستمتاع بالطقس المدهش، ومشهد البحر الاستثنائى، فى حضن الكورنيش الذى ما زال محتفظاً بقوام لا يخلو من جمال.
لكن هذه المتعة الصغيرة، التى يمكن أن تقاوم كل آيات العدوان على تلك المدينة الجميلة، باتت عصية، إذ لا يخلو مقهى واحد على هذا الكورنيش الممتد من حالة تسول، ولا تمر خمس دقائق من دون أن يأتيك متسول طالباً صدقة.
لم يعد بالإمكان الاستمتاع بأجواء الإسكندرية، أو قضاء المصالح فيها، من دون أن تتعرض لضغوط متنوعة من طبقة المتسولين، وهى طبقة واسعة، مختلفة الأطياف والشرائح، ومتعددة التكنيكات.
فى دراسة صدرت عن قسم بحوث الجريمة، بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، فى العام 2016، تم تقدير عدد المتسولين فى الإسكندرية بنحو 1572 متسولاً، وهو عدد كبير نسبياً، لكن نتائج هذه الدراسة لا تبدو صالحة لتقييم هذه الظاهرة اليوم، فى ظل الزيادة المطردة فى أعداد المتسولين.
ثمة أنماط عديدة للتسول يمكن ببساطة رصدها خلال فترة زمنية محدودة من معايشة تلك الحالة التى ستسيطر على أجوائك، وتحرمك التفكير فى غيرها خلال الفترة التى ستخاطر فيها بالبقاء على الكورنيش مساء.
أول هذه الأنماط يتمثل فى ظاهرة تسول المعاقين، أو الذين يدّعون الإعاقة، وفى هذا البند تحديداً تفيد دراسة المركز القومى للبحوث الاجتماعية بأن أكثر من نصف هؤلاء المتسولين المعاقين تعرضوا لجريمة «إحداث إعاقة»، وهى الجريمة التى تخصص فيها «زيطة» صانع العاهات، فى رواية نجيب محفوظ البديعة «زقاق المدق».
أما ثانى أنماط التسول لجهة الكثافة والتكرار، وفق الملاحظة المباشرة، فيبدو أنه يتعلق بعملية «الإيهام بالبيع». أطفال، أو شبان وشابات، أو كهول وشيوخ، يتسولون عبر الإيهام ببيع سلع ومنتجات رديئة، وغير معلومة المصدر، ولا يمكن أن تحظى باهتمام مرتادى الكورنيش من السائحين وأهل المدينة من الطبقة الوسطى.
ويأتى ثالث الأنماط ليثير الكثير من الأسى، إذ يعتمد البعض على الإيهام بتقديم خدمة إبداعية أو فنية، عبر العزف، أو الغناء، وهى خدمة لا تنطلق من أى أساس فنى أو جهد مميز، كما يحدث فى الكثير من مدن العالم، بل هى تعتمد على الإيهام، والإلحاح، والمحاصرة.
أحد المتسولين البارزين الذين لا يتركون الكورنيش ليلاً من دون ممارسة جريمتهم، يعمد إلى أسلوب مركّب، ينطوى على عدد من الجرائم، إذ يستخدم أطفاله فى قرع الطبول بطريقة صادمة ومستفزة، ويحاصرك فى مكانك بالصوت الزاعق، ولا يتركك إلا بعد أن تدفع له اتقاء لشره، ورغبة فى أن يتوقف عن إزعاجك بالأصوات المنكرة التى لا تنتظم ضمن أى نسق فنى.
ليست تلك هى المعضلة الكبرى، لكن الإشكال الكبير يظهر فى النمط الرابع من أنماط التسول، وهو النمط الذى يعتمد على مسحة من الإكراه والتخويف، وقد يصاحبه ادعاء الجنون، الذى يجعلك راغباً فى صرف المتسول عبر منحه المال، مهما كنت معترضاً على أسلوبه، اتقاء لشره.
تقول الدراسات المتخصصة إن 75% من المتسولين يمكن تسميتهم بـ«متسولى المواسم»، وهو أمر يفسر الزيادة الكبيرة الحادة فى أعدادهم فى أيام شهر رمضان، ومع ذلك فإن هذا العدد الضخم، وتلك الوتيرة المتلاحقة، وهذا الإلحاح الصارم، لا يبدو مفهوماً أو مقبولاً تحت أى زعم.
نحن نعرف أن مصادر التسول عديدة، مثل البطالة، والفقر، والغلاء، لكن تلك المصادر كانت موجودة على مدى العصور، ولم تفرز حالة تسول صارخة ومتبجحة مثل التى نعيشها الآن.
هناك مصادر نفسية واجتماعية وسياسية لتعزيز حالة التسول الصارخة والمتبجحة، وقد يكون على رأسها فقدان الشعور بالعدالة الاجتماعية، وتنافر طبقى يتسع أثره يوماً بعد يوم، وتحلل قيمى لا يُبقى معنى للشعور بالعار أو الحرج.
لا يمكن أن تتفاقم ظاهرة التسول على النحو الذى يمكن رصده كل ليلة على كورنيش الإسكندرية فى مجتمع ينطوى على حد أدنى من الثقة فى القانون أو اعتباره.
كثيرون من المنخرطين فى أنشطة التسول المتنوعة قادرون على العمل والكسب، حتى لو اضطروا للانخراط ضمن العمالة المنزلية التى تعرف طلباً متصاعداً لا يقابله عرض مناسب، لكن فقدان الثقة المجتمعية، والميل إلى الكسل، وغياب الشعور بالثقة فى عدالة أساليب الكسب ونزاهة أعضاء الطبقتين الوسطى والعليا، يعزز الميل إلى التسول على حساب العمل.
يجب أن لا تدفعنا حالة التسول الصارخة الراهنة إلى الاكتفاء برصدها ونقدها فقط، وليس المطلوب حتى التحذير من خطورتها، والتحسر على ما آلت إليه الأوضاع وما قاد إلى تفاقمها فقط، وإنما مطلوب سياسة وطنية لمواجهة كارثة وطنية.
على الدولة، والمجتمع المدنى، ومراكز البحوث المعنية، البدء فوراً فى خطة قومية لمكافحة ظاهرة التسول، وهى خطة تنطوى على آليات رصد، وبحث، وتحليل، وبناء قاعدة بيانات، وتطوير حزم أمان واستيعاب، وتعزيز سلطة الدولة والأمن، وإنفاذ القانون، بموازاة حملات توعية مكثفة ومركزة.
ظاهرة التسول تتفاقم وتتطور، وتداعياتها ستكون وخيمة.