أُعلن الأسبوع الماضى تشكيل الحكومة الجديدة فى الولاية الثانية للرئيس السيسى، لتبدأ فعلياً المرحلة الرابعة فى سلسلة الجمهوريات المصرية تخللتها مراحل انتقالية، منها ما مكث أياماً مثل الفترة التى أعقبت اغتيال السادات وتولى فيها د. صوفى أبوطالب، رئيس مجلس الشعب وقتها، حكم البلاد، حتى تسلم مبارك مقاليد الحكم، وأخرى مكثت عاماً مثل فترة الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، رئيس المحكمة الدستورية وقتها. وعلى الرغم من انتقال الحكم إلى السيسى رئيساً منتخباً، فإن فترة ولايته الأولى ٢٠١٤: ٢٠١٨ أكملت الشكل الانتقالى، لتبدأ تدشين الجمهورية الرابعة من يوم الخميس الماضى. وربما يتصور البعض أن العصر الجمهورى بدأ مع ثورة يوليو ٥٢ واستمر حتى الآن، والحقيقة أن الشكل الجمهورى هو الذى استمر متصلاً، ولكن عبر مراحل منفصلة تماماً كانت حتمية نظراً للأحداث التى مرت بها البلاد، ومنذ ثورة يوليو وحتى الآن كان الجيش هو السند والحماية لانتقال السلطة بشكل سلمى، حافظاً لمكتسبات الشعب فى مراحل الجمهوريات السابقة، وفى أحيان أخرى يكون الجيش هو محرك الأحداث لبداية مرحلة جديدة من الجمهورية.
كان الإعلان الرسمى لنقل القطر المصرى من النظام الملكى إلى الجمهورى هو عام ١٩٥٤، ومع أن الثورة التى قضت على النظام الملكى كانت فى عام ٥٢ فإن فترة الرئيس محمد نجيب كانت تُعتبر فترة اختبارية وإعداد انتقالى للجمهورية التى أُعلنت مع تولى الرئيس جمال عبدالناصر، ومع ذلك فإن الجمهورية الفعلية كانت عام ١٩٥٦، وتحديداً بعد الحرب الثلاثية التى انتهت بنصر سياسى للمناخ الدولى وقتذاك الذى كان هو الآخر يعلن بأن هناك قوتين عظميين تتحكمان فى العالم (أمريكا - روسيا)، إلا أن هذا الانتصار تم سحبه على الجيش ليُعطى للشعب ثقة فى جيشه، خاصة أن وزير الحربية عبدالحكيم عامر كان من أهم أقطاب ثورة يوليو والمشارك الصادق بكل الأحداث، وقد قام بدور كبير ومحورى فى تنفيذ الأداء الفكرى لناصر الذى كان يقود تحرر المنطقة العربية من الاستعمار والأنظمة الملكية فى آن واحد، مما جعل الجيش المصرى ينغمس فى تلك القضايا، وكان أكثرها تأثيراً حرب اليمن، حتى إن قادة هذا الزمان قالوا إننا والضباط والجنود انخرطنا فى عمليات خارج الحدود حتى نسينا مسرح عمليات بلدنا، فكانت الطامة الكبرى فى ٦٧.
وبالرغم مما تم من إنجازات ومكتسبات للشعب فى المرحلة الأولى للجمهورية، كان على رأسها التأميم والإصلاح الزراعى والمشروع القومى السد العالى ومجانية التعليم وإنشاء الصناعات الثقيلة، إلا أنها فشلت وأخفقت عند الاختبار الحقيقى لصيانة البلاد من العدو المتربص للقضاء على هذه الإنجازات، وكانت الهزيمة العسكرية والنكسة السياسية والشعبوية أيضاً. لقد اعتبر الشعب نفسه مسئولاً عما حدث، وإن كان ليس بقدر القيادة العسكرية التى حمّلها المسئولية كاملة، ونادى بمحاكمة القيادات العسكرية المتسببة فى ذلك وتطهير صفوف الجيش من المتقاعسين، وأبقى بل أيّد بقاء القيادة السياسية ممثلة فى رئيس الجمهورية من باب أنه خُدع فى ثقته بالجيش وقياداته مثله مثل الشعب، إلا أن ناصر كان أمام محكمة عالمية دولية لتقييم أدائه، مما استلزم منه تقديم تنحيه لأنه القائد الأعلى للجيش، وعليه المسئولية العسكرية والسياسية لتلك الهزيمة. عند ذلك رفع الشعب الواعى الحرج عن رئيسه أمام العالم وتمسك به لاسترداد الكرامة المصرية التى أُهدرت مع هذه الهزيمة النكراء، ورد ناصر عن تنحيته، وطلب منه إصلاح ما تم إفساده. وعليه بدأت عجلة استعادة الأوضاع بتشكيل لجنة تقصّى حقائق هذه الحرب لتحديد المقصرين مع إقالة القائد العام للجيش والتى انتهت بوفاته، وكان هناك من قادة الجيش الأكفاء من كانوا غير راضين عن هذا الأداء، ولكن لم يؤخذ برأيهم، مثل اللواء محمد فوزى، الضابط الصارم، الذى لم ينتظر صدور أوامر وقام بجمع شتات الجيش، ومع ذلك طلب الرئيس ناصر من اللواء حسن البدرى، رئيس لجنة تقصى الحقائق، أن يكون وزيراً للحربية عن طريق عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام وقتذاك، إلا أن البدرى اعتذر، وقال إن من يستحق تولى الوزارة هو محمد فوزى الذى جمع شتات الجيش ويقوم بتدريبه وإعداده، وقد اقتنع ناصر بكلام البدرى الذى نقله له حاتم، وعليه عين البدرى مستشاراً عسكرياً له لوفائه وصدقه، وأصدر قراراً بترقية (محمد أمين فوزى حاخوا) إلى رتبة فريق أول وتوليه وزارة الحربية، وكان ذلك فى ١١ يونيو، أى بعد الهزيمة بأيام، ليبدأ فوزى عملية تطهير صفوف الجيش التى تمركزت فى قيادات الصف الثانى المسئولين عن الوجود فى ميدان المعركة بعد تلقيهم أوامر القيادات الأولى، وبدأت معارك الاستنزاف التى تم وقفها عام ٦٩، لتبدأ مرحلة الاستعداد للحرب الكبرى، ولكن القدر لم يمهل رئيس المرحلة الأولى من الجمهورية، وأيضاً مؤسس النظام الجمهورى، لاستكمال رد الاعتبار، ليفارق الحياة عام ٧٠ فى ظل حزن شعبى ورئيس جديد يظللهما ثبات الجيش وتماسكه فى مرحلة صعبة تمر بها البلاد.