أول ردات الفعل على الموجة الثانية لـ«وثائق بنما»، أو ما يمكن تسميته محاولة فرض حصار على تأثيرها البالغ، الذى يبدو أنه فى طريقه للتشكل، خرجت سريعاً من لبنان، عندما تقدم رجل الأعمال اللبنانى «أيمن جمعة» بدعوى قضائية أمام محكمة الأمور المستعجلة، طلب فيها التحرك القانونى لوقف ومنع ما يتم تداوله من قبل تليفزيون «الجديد»، نقلاً عن المواقع المشاركة مع الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ)، باعتبار تلك المعلومات فيما يخص نشاطه التجارى، تأتى فى سياق ما أسماه «حملة مبرمجة» تستهدفه، وصهره رئيس المجلس النيابى اللبنانى «نبيه برى» والد زوجته.
القضاء اللبنانى وفى خطوة رصينة، رفض طلب «أيمن جمعة»، بل واعتبر المطالبة بالحجب متعارضاً مع مبدأ حرية القول المكرسة بالدستور، هذا استتبعه صدور بيان صحفى من موقع «درج» الصحفى الاستقصائى، يؤكد فيه على استقلالية عمله وشراكته الرسمية لمؤسسة «آريج»، باعتبارهما الشريكين العربيين للاتحاد الدولى (ICIJ) الذى أطلق قبلاً مشروع «وثائق بارادايز»، لم يفت الموقع الصحفى أن يضمن بيانه ما يخص مشروع بارادايز كونه نشر كل ما وقع تحت يديه ويخص شخصيات عربية وأجنبية مختلفة، لكنه ربما فى بيانه أراد توجيه لفتة خشنة لكل من جمعة وللرأى العام المتابع للحدث، بإعادة التذكير أن تحقيقات «وثائق بارادايز» بجانب تتبعها لثروات الحكام والساسة والمشاهير، قامت بالتدقيق فى مئات من وقائع الالتفاف على الضرائب والقوانين، بالكشف مثلاً عن شركات مسئولى النظام السورى، التى أنشئت بغرض التهرب من العقوبات الدولية ودور لبنان فيها، وامتداد هذه الشركات للوصول إلى شراكاتها المخفية مع نظيرتها الإيرانية.
السبب فى تشكل العاصفة اللبنانية كأول عملية ارتداد سريعة للموجة الثانية من «وثائق بنما»، ربما كونها الأقرب لدوائر حكم الدولة ذات الثلاثة رؤوس، يمثل رئيس مجلس النواب أحدها وأكثرها حساسية، بالنظر إلى ارتباطات شاغل المنصب «نبيه برى» بالمكون الشيعى الداخلى، الذى يجاوره فى القلب منه «حزب الله»، وعبر الحدود المتداخلة مع «النظام السورى»، باعتبار كليهما يقع تحت طائلة الشكوك العميقة من أطراف عدة، تجاه تمويل أنشطتهما، ربما تأتى الموجة الثانية لـ«وثائق بنما» فيما يخص تلك الحالة، لتمثل المكمل الكاشف لما جاء بمشروع «وثائق بارادايز»، أو ما يمكن اعتباره الموضع الأكثر اقتراباً من التفاصيل، التى ظلت غائمة لسنوات، فتحقيقات بنما التى أثارت الضجة اللبنانية، كما أنها التزمت بحرص السير على الزجاج إلا أنها كشفت بجلاء، كيف يتم توفير التمويلات العابرة «المغطاة».
فالتحقيق الذى نقل عنه تليفزيون «الجديد»، وأصبح اليوم موجوداً على ما يقارب 100 موقع صحفى عربى وأجنبى، بدأ بالتأكيد على أن اسم «نبيه برى» لم يرد فى أى وثيقة من «وثائق بنما»، وغير موجود فى أى من السجلات التجارية داخل لبنان أو خارجه، لكنه فى الوقت ذاته تناول بالأسماء والتواريخ الشركات التى يمتلكها الصهر «أيمن جمعة»، التى حددتها «وثائق بنما» بـ(12 شركة أوفشور) مسجلة بجزر العذارى البريطانية، يرد اسم «ميسا البرى» الابنة الصغرى لرئيس مجلس النواب، كمساهمة فى ثلاث من تلك الشركات، التاريخ ذو الدلالة، الذى أفصحت عنه أوراق مكتب «موساك فونسيكا» البنمى للمحاماة ومزود الخدمة لتلك الشركات، أنها جميعاً تم تأسيسها بعد تاريخ زواج جمعة من ميسا ابنة برى فى أغسطس 2008، والاسم الآخر الأكثر دلالة فى الإفصاح عن امتدادات تلك الشراكات وتكشف عنه ذات الوثائق، هو «نجيب أبوحمزة» المساهم الرئيسى فى (4 شركات) من المجموعة المسجلة بجزر العذارى، وهى شراكة أثبتها المكتب البنمى بأنها تمت بعد زواج أبوحمزة من «ميس أصلان» فى يونيو 2012، وميس هى ابنة «فلك الأسد» ابنة عم الرئيس السورى بشار الأسد، وخالها هو «منذر الأسد» المدرج على لائحة العقوبات المالية الدولية.
المثير فى الموجة الثانية لـ«وثائق بنما» حول هذه الشركات التى يديرها «أيمن جمعة»، أن بعض تلك الوثائق يرصد الخلاف الذى تفجر ما بين «موساك فونيسكا» وجمعة وشركاته، عبر الوصول إلى الرسائل الإلكترونية المتبادلة بينهما، فيما بعد النشر الأول للوثائق أبريل 2016، حينها سارع المكتب البنمى بالتهديد باستقالته من إدارة شركات جمعة، فى حال عدم الإفصاح عن البيانات الشاغرة حول الملاك المستفيدين، وتوفير ما يفيد مصادر التمويل والثروة، حيث كان حينها «موساك فونيسكا» يواجه اتهاماً مباشراً يتجاوز مجرد توفير ملاذ ضريبى لعملائه، إلى مربع تبييض الأموال عبر متحصلات تلك الشركات، باعتبار أن أهم وسائل المكافحة لتلك الأنشطة تتمثل فى ضرورة التحقق من هوية العملاء، وفهم هيكلية الملكية، فرغم ضمانة نظام «الأوفشور» لقدر من سرية تلك البيانات، لكن القواعد القانونية والمصرفية تحتم توفير تلك المعلومات تحت قاعدة «اعرف عميلك»، وتخضعها فيما بعد توافرها للقدر المطلوب من السرية، لذلك ظل فراغ بيانات الشركات من هذه المعلومات هو محل الخلاف الرئيسى، وعنوان المخاطر الكاشفة التى تسببت فى تلك العاصفة البنمية الهائلة.
بالقطع مجموعة شركات «أيمن جمعة» و«نجيب أبوحمزة»، مجرد مثال يحوى العديد من الزوايا الكاشفة، لكنهما كما جاء بالرد الصحفى ليسا وحدهما، وهناك المئات غيرهما، بطول بلدان العالم وعرضه، الذى يمكن فعلياً أن يشكل أسئلة استيقاف حول تلك المعلومات؛ هى لمن تذهب الأموال فى نهاية المطاف، هل لميزانية «حزب الله» صاحب الإنفاق التسليحى الضخم، خاصة أن ميزانيته والنشاطات التى يكفلها فى العلن على الأقل لم تخضع يوماً لسؤال «من أين لك هذا؟»، وهذا قد يكون ما استوجب أن تمسك بهذه الأموال تلك الأيادى الأمينة والأكثر اقتراباً، هل يمثل هذا نموذجاً حصرياً، أم أن غيره من التنظيمات المسلحة والبلدان الراعية لها احتياجات هى الأخرى لملاذ دافء وأياد حانية تتكفل بمثل تلك الأشكال من الرعاية، وتقديم الخدمات الثمينة؟!