كلنا على اختلافنا واختلاف أعمارنا يعيش على الأمل.. وآمالنا تحمل حتماً آثار اختلاف المستويات والطبقات، وتتصيد ما نرغب ونفضل ونرجو مما نتشوقه ونتمناه مما ليس فى يدنا فى الحاضر.
ويبدو من واقعنا، الذى قد يستحيل علينا إبداله بواقع آخر مضاد، أننا سلمنا منذ آلاف الأجيال والأحقاب -ودون أن نشعر- بتلك المستويات والطبقات والاختلافات والفروق فى عمومها، وصُغنا عليها وعينا وعقلنا وعواطفنا ومشاربنا وحاجاتنا المادية والمعنوية ومفاهيمنا للتقدم والتطور. وما نحققه أو ما نقصده فى الحاضر والمستقبل من معانى التحضر والرقى.
مواصلة الكفاح
ومن المسلمات أن حياة كل الأحياء مبناها مواصلة الكفاح، سواء فى صورها المرئية أو غير المرئية.. وهو كفاح دائم فى الأفراد والمجاميع، يستمر من اللحظة التى تدب فيها حياة أى حى فيه إلى لحظة أن تفارقه.. والفارق الزمنى بين هاتين اللحظتين يكون أحياناً فى غاية القِصر وأحياناً يمتد سنين طويلة جداً، كما فى بعض أنواع النبات والحيوان.. ولزوم أو ملازمة ذلك الكفاح أصله، فيما يبدو، أن استمرار الحياة بأى مقدار يحتاج إلى المدد المستمر من الخارج، ويحتاج إلى التخلص المستمر من مخلفات وفضلات ذلك.. ولذا وجدت فى كيان كل حى أجهزة على قدر من التخصص تكفل ذلك الاستمرار دخولاً وخروجاً. ومع ذلك الكفاح يوجد القلق دائماً رغبة فى الأمان والثقة والاحتمال، مع الرغبة المترددة بين الأمل واليأس وبين الرجاء والسخط وبين الاكتفاء والطمع.. وذلك على مقدار ما أُعطى كل حىّ من الشعور بأنه مسوق للمحافظة على حياته خلال أطوارها ومراحلها إلى نهايتها.. وهذا يحسه كل فرد باختلافه اختلافاً مطرداً، كما يحسه كل مجموع فى الجنس أو النوع أو الأسرة.. فما يسود لدينا أفراداً وجماعات من التمييز الواعى بين القوة والضعف، وبين الأهمية والمكانة والغنى وبين قلة الشأن أو الفقر والهوان، منشأه المستمر هو ذلك الكفاح الذى تفرضه حياة الأحياء على هذه الأرض التى يبدو أنها تعطى لكل على قدر قوته أو ضعفه، وعلى مساحة ما لديه من ظروف تسانده أو تخذله.. ويبدو أن الأرض رغم محدوديتها فى نظر الآدميين، ما زال لديها الكثير جداً من العطاء الغامر لعموم البشر وعموم الأحياء.. وذلك بقدر ما نفطن إلى سعة وقيمة ما لديها، وبقدر نجاح من ينجح ومن يجتهد منا ويوفق إلى كشف بعض ما فيها للانتفاع به فى مناحى الحياة وفى صيانة البيئة التى تجمع سائر الأحياء فى أمن وسلام. وهذا مُراد كونى ملحوظ فيما زود به الآدميون من الاستعدادات التى ميزوا بتطورها المستمر على ما حولهم من الأحياء.. ولم يؤخر تحقيق هذا المراد الكونى -فيما يبدو- امتداد غفلة البشر وغلوائهم منذ وُجدوا حتى الآن، فلعل هذا الامتداد أن يكون مراحل إخصاب وحضانة ونمو شبيهة بأمثالها فى حياة كل منا الفردية.. ولعل حكمنا على ماضينا وحاضرنا بالغفلة والغلواء أن يكون رأياً بشرياً وقتياً متعجلاً.. لم يراعِ مسايرة التعرف والصبر على فهم خصائص النواميس الكونية داخلنا وخارجنا، وما بينها من ترابط جوهرى لم نُحِط به حتى الآن بدقة وإحكام.
فحدودية الأرض وإمكاناتها فى أعيننا حتى الآن، هى بلا شك أوسع بكثير وأعمق مما كان يشعر به ويتصوره ويفتقده السابقون كل منهم فى إطار عصره وبيئته.. وهى ستصير أكثر اتساعاً وعمقاً فى نظر من يأتون بعدنا إذا استمر تقدم وتطور البحث المنظم والفكر والنقد دون أن ينتكس!
البيئة
واهتمام العالم المتقدم الآن بشئون البيئة والمحافظة على بيئة النبات والحيوان واستهجان المغالاة التى اعتدنا عليها وألفناها فى الفتك بالنبات والحيوان من أجل ما تصورنا أنه من لوازم القوة والعمار والتحضر.. هذا الاهتمام أمارة إفاقة والتفات إلى ضرورة التعرف والصبر على مسايرة خصائص نواميس الكون مما يجمعنا مع غيرنا ويستحيل علينا الانفراد به والسيطرة عليه.. وهنا يجب أن نفطن إلى دور التفات كل فرد منا لذاته وانحيازه الطاغى لها انحيازاً غطى عواطفنا ومعظم تفكيرنا. وقد تعرض هذا الدور الهائل فى حياة كل منا تعرضاً متزايداً للتآكل منذ القرن السادس عشر فى أوروبا الغربية، وزاد التصدى له والهجوم عليه فى القرنين الأخيرين نتيجة الاهتمام المتزايد بالمعارف الوضعية التى تجتهد فى إسناد معطياتها إلى رصد الواقع المُشاهَد المعايَن بالحواس والملحوظ من التجارب المبنية على هذا الواقع والضبط المستقى من التجارب المعبر عنها تعبيراً ثابت الأداء والأدوات بالرياضيات القابلة دائماً للمراجعة والتصحيح.
انحياز الآدمى لذاته!
والتآكل فى التفات وانحياز الآدمى إلى ذاته برغم اطراده مع اطراد نفوذ ونتائج المعارف الوضعية.. هذا التآكل وإن كان قد أضعف التعصب لدى أهل هذه المعارف إلى حد بعيد، فإنه لم يقوض بعد تعصب كثرة الناس المتعصبين حتى الآن لمسلماتهم ومصدقاتهم ومعتقداتهم التى تعيش معهم ويعيشون عليها.. ولهذا خطورته المشهودة لكل عاقل على الحضارة الحالية التى زادت فى أهمية أصوات الكثرة ونفوذها فى المسائل العامة. وهذا يبدو أنه يرتد منتكساً إلى كثيرين من المشتغلين فعلاً بالمعارف الوضعية ومن أصحاب المهن المبينة على هذه المعارف.. وهذا مصدر خطر وضرر تحس به الآن الجماعات المتحضرة، فقد تعرضت الطاقات والقوى الهائلة والمواد والتراكيب والأجهزة والوسائل والمعدات والأدوات القابلة للنفع العظيم وأيضاً للتخريب والإهلاك والإفناء، المبنية على تلك المعارف الوضعية، لسيطرة نفوس وعقول قلقة يعوزها التثبت والروية والأناة والصبر.. تنساق مع الولع بالمجازفات والمغامرات والعدو وراء الأوهام والأحلام التى تعتنقها كمبادئ وعقائد تنساق إلى عواقب وعقابيل لا يعرف مداها إلا الله! وباتت أحوال الجماعات البشرية اليوم تبدو أكثر اضطراباً وتعرضاً للفتن مما كانت فى الماضى القريب أو البعيد.. وهو ما لا يُرجى مغالبته وتفاديه إلّا بفضل ثبات ووعى العارفين العقلاء ونجاحهم فى تسكين وفض المشاكل بالغة الكثرة التى لا يخلو منها الآن بلد من البلاد!
العقل والأهواء
ويبدو أن تقدم عقل الإنسان فى الفهم يصحبه زيادة فى الأهواء، وأن ترقيه فى المعرفة يستولد حماقات جديدة، وأن ولوعه بالانكباب على دراسة ما فيه ومعه وحوله وداخله وخارجه بغاية ما يستطيع من الدقة والإتقان، يواكبه ظهور المزيد من الخفة والسطحية وقلة المبالاة، وأن هذه النقائص من توابع التقدم والترقى والاجتهاد.. وينتظر أن تؤدى -على نحو ما- دورها فى مقاومة ما فى فطرتنا من الميل إلى المبالغة والشطط.. وربما كان ذلك له مدخل من مداخل نواميس الكون فينا!
وربما كان ما يجرى به الآن تمييز وتحديد معالم الطبقات والمستويات بين البشر، راجعاً إلى اهتمامنا وإحساسنا بالفروق بين الأفراد والأسر والجماعات -فى القوة والمكانة والنفوذ والثروة- وإلى ما نبنى عليها منذ قديم القديم من فوارق واسعة بين الحاكم والمحكوم والأصيل والوضيع والغنى والفقير والمتعلم والمثقف والأمى والعامى والسوقى، وغير ذلك مما درج الناس على أن يحددوا به معالم للتمييز بين المستويات أو الطبقات!
قضية المساواة
ويمزج تبنى قضية المساواة بين البشر فى زماننا ما بين فكرتين: فكرة تحسين حال الكثرة مادياً واجتماعياً وفكرياً وتخليصها مما هى عليه من الفاقة وخطر الفاقة والهوان والتعرض للهوان البدنى والنفسى وإنقاذها من الأمراض المترتبة على الفاقة والجهل والهوان، وهذا ممكن وسديد ومعقول، يحتاج تنفيذه إلى وقت وجهد ومال وإخلاص يجب أن يبذل، أما الفكرة الثانية لتحقيق المساواة فتنطلق من نظرة تتجاهل الفروق الطبيعية والمكتسبة فى الأحياء والمواهب والموارد والأجواء والأقاليم والأمكنة والأزمنة، وتغفل الفروق الواقعية التى بُنيت على جهود وتضحيات ومساعٍ لأجيال متتابعة.. تتجاهل ذلك تجاهلاً تاماً عاماً يستهدف إزالة آثارها ونواتجها التى ارتبطت بالحياة الاجتماعية والفردية. وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه دون تغيير بنية الجماعات تغييراً تتجاذبه وتختلف حوله وعليه النظريات الاقتصادية والاجتماعية السائدة!
وهذا فيه نظر.