منذ حوالى تسعة أعوام حين بدأت تهاجمنى آلام العمود الفقرى بعنف، كان أحد أطِبّائى الأوائل فى رحلة العلاج هو الخلوق الذى يستحق التكريم د. محمود أبو النوارج -رحمة الله عليه- وكان حينئذ رئيس قسم العظام بجامعة الأزهر بنين.
أمسك صورة الأشعة بين وجهه و مصدر الضوء الأبيض واندهش من أول نظرة قائلا: "دى أشعة واحد عجوز يا ابني!"
عاجلته بالرد فى حزن وانكسار: "اه والله تعبان جدا يا دكتور" بينما اتسعت حدقتا عينيّ أمى من الصدمة والخوف.
أوضح لنا مقصده فى الحال، هو لا يقصد تشبيه حالتى بحالة رجل عجوز، بل كان يقصد أنه يستحيل أن يكون هذا العمود الفقرى الظاهر فى صورة الأشعة مِلكاً لشاب يافع فى أوائل العشرينات.
ألقينا نظرة فاحصة سريعة على مظروف الأشعة و تبيّن لنا أنّها بالفعل أشعة جدّى -رحمة الله عليه- مكتوب عليها اسمه وقد أحضرتها معى عن طريق الخطأ.
ضحكنا جميعا هو وأمى وأنا على هذا الخلط وخصوصاً على ردّى الحزين على ما ليس لى أصلا، وعدت له فيما بعد بأشعتى و التى على إثرها كتب لى بعض الأدوية والمسكنات.
هناك مصطلح قرأته منذ فترة فى مقال بالإنجليزية فى مجال علم النفس والاجتماع لخّص لى خلاصة تفكيرى طيلة هذه الأعوام فى هذا الموقف; ألا وهو Negativity Bias أى التحيُّز السلبى.
فأنا ذاهب إلى الطبيب مُحَمَّلاً بالألم على استعداد تصديق ما يقول بلا تردُّد لأنه بالنسبة لى العالم والخبير فى هذا المجال و المُلِمّ بتفاصيل ودقائق هذا التخصُّص، وحين أظهر دهشته بجملته الأولى اندفعت أؤكدها بسبب بالألم.
التحيز السلبى يظهر جليا فى انتشار الشائعات، وأى معلومة نتداولها من المفترض أن نفكر فى أربعة أركان لها:
١. الخبر.
٢. مصدر الخبر.
٣. سبب أو مصدر التصديق.
٤. سبب أو مصدر النفى و التعقيل.
التحيُّز السلبى فى كل الأحيان يعتمد فى النهاية على قدرة وإرادة صاحبه على التعقيل، فى بعض الأحيان يكون سلوكا معذورا ومن السهل توضيح حقيقته مثل المثال السابق أو فى مثال آخر يكون بطله إنسان من متحدّى الإعاقة العقلية أو الذهنية.
وفى أحيان أكثر هو نتيجة تحفُّز و استعداد شخصى للهجوم أو ندب الحال نتيجة انتهاج منهج غير عقلانى مدفوع بهدف ما غير سوى.
وهنا يصبح ذلك جريمة لا يمكن أن نعذر صاحبها و يستحق على إثرها المحاسبة القانونية والقضائية إذا تسبب فى إيذاء الآخرين ماديا أو معنويا، وهذا ما نطلق عليه: الشائعة.
الشائعة فى البداية هى عبارة عن خبر، هذا الخبر قد يكون اعتياديا أو غريبا أو مُريبا، فى كل الأحوال يجب النظر إلى مصدر الخبر و تتبُّعه إلى منبعه الصحفى أو الإعلامى أو الشخصى.
وهنا نصل إلى التصديق أو النفى، هل هذا المصدر ذو ثقة وأهلية ومتخصص فى شأن المعلومة؟ هل هذه المعلومة منطقية أم بها مبالغات؟ هل بالأمر رائحة التحيُّز أو استغلال للعاطفة أو روح التحفز المنتشرة حاليا؟
الخلاصة فى مشكلة الشائعات فى وجهة نظرى المتواضعة أنها تتغذى على التحفز و الاندفاع و المخاوف، و يساعدها على التواجد و الانتشار عقول عمياء إما بإرادتهم فى ممارسة الإجرام والتخريب أو بالتكاسُل عن إعمال العقل، و فى الحالتين الضرر واحد.
ففضلاً لا أمراً ولمصلحتك أنت النفسية و للمصلحة العامة.. أمسِك يدك ولسانك عن نشر معلومة لم تفكر فيها جيداً.. تفكير صِحّى لمدة دقيقة قادر على أن يمنع ارتباك أيام و شهور وسنين.