باستثناء الحزب الشيوعى المصرى، لا أحد يعرف على وجه التحديد الهوية السياسية لأى حزب سياسى فى هذا البلد. حتى حزب التجمع، الذى يطرح نفسه كحزب يسارى، يعانى هو الآخر إشكالية الهوية والتوجه العام، لأنه يضم فئات عديدة مثل الماركسيين والناصريين والقوميين والتيار الدينى المستنير والرأسمالية الوطنية(!!) فضلاً عن «التجمعيين» الذين هم أشخاص انضموا للحزب دون أن تكون لأحدهم انتماءات سياسية عقائدية أو أخوية!
أقدم الأحزاب المصرية حالياً هو حزب الوفد، وهو بدوره حزب متعدد الصفات والتوجهات، يعرفه بعض الناس كحزب يمينى يضم بقايا العائلات العريقة من فئة الباشوات والبكوات، ويعرفه آخرون كحزب ليبرالى ذى توجهات مرنة تتراوح بين اليمين واليسار وفق ظروف الوطن، ويقول الحزب عن نفسه إنه «بيت الأمة» أى إنه يمثل الأمة المصرية بأكملها، أو يتسع للتعبير عن مصالحها بصرف النظر عن التوجهات السياسية أو الاقتصادية أو الطبقية، وفى أحيان كثيرة يتصدى الوفد للدفاع عن الطبقة العاملة أفضل مما تفعل الأحزاب اليسارية، وفى أحيان أخرى يهاجم الناصرية وزعيمها ويتهمهم بالمسئولية عن تخريب البلاد وقتل الحياة السياسية فى البلاد، وفى كل الحالات يتخذ الحزب مواقف وطنية لا تبتعد كثيراً عن المنطق والموضوعية والصالح العام المتاح ما دامت لا تخص عبدالناصر!
كراهية الوفد لعبدالناصر والناصريين تدفعه أحياناً لإهدار الليبرالية وإغلاق بيت الأمة دون أى مواطن لا يعترف بثوابت وزعماء وشعارات هذا الحزب.. وأحدث مثال فى هذا السياق هو الهجوم الضارى الذى شنته جريدة الحزب ضد الدكتور عاصم الدسوقى، أحد أهم أساتذة وعلماء التاريخ الحديث، لأنه أعلن فى مقال أو حديث صحفى أن الثلاثى سعد زغلول ومصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين ليسوا زعماء بالمعنى الذى يردده الوفديون وآخرون، وهذا الرأى ليس جديداً بالنسبة للدكتور عاصم ولآخرين من متابعى التاريخ المصرى أكاديمياً أو ثقافياً أو سياسياً، والمفروض أن جريدة «الوفد» تعرف آراء وكتابات الدكتور عاصم، وتعرف أيضاً أن حق الاختلاف فى التقييم ووجهات النظر مكفول لكل الناس، وتعرف كذلك أن إنكار زعامة الثلاثى الوفدى ليس جريمة لأن بعض البشر ينكرون وجود الله نفسه!
الهجوم الذى شنته جريدة الوفد ضد أستاذ التاريخ وضد الجريدة التى نشرت كلامه يؤكد أن الصفات التى يطلقها الحزب على نفسه لا أساس لها من الصحة، فلو كان الوفد هو بيت الأمة كما يقولون لفتح أبوابه أمام كل الناس وكل الآراء والرؤى دون التوقف أمام مسألة الثوابت والزعامات. ولو كان الوفد يؤمن بالليبرالية لقام بدعوة الدكتور عاصم الدسوقى لطرح آرائه فى ندوة بالحزب أو لقاء صحفى فى الجريدة وناقش معه أحداث ثورة 1919 ودور سعد زغلول ثم مصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين فى الحياة السياسية المصرية قبل ثورة يوليو، ومن خلال النقاش الموضوعى يتمكن الوفديون وغيرهم من إدراك الأسباب التى يستند إليها أستاذ التاريخ فى نقده لسعد والنحاس وسراج الدين، وسواء اتفقوا أو اختلفوا يظل حزبهم محترماً ويظل الدسوقى أستاذاً وليس «قزماً».
يحدث هذا بينما لم تتدخل الدولة أو الحكومة فى أى وقت لمنع أى هجوم وفدى أو شتائم ضد عبدالناصر وعصره وإنجازاته، وإن كان المجتمع السياسى والثقافى قد اعترف للوفد بحقه فى استنكار الناصرية وزعيمها، فلماذا لا يتحمل الوفديون الآراء السلبية فى ثورة 1919 وفى زعماء هذه الثورة؟ هل الاعتراف بزعامة سعد والنحاس وسراج الدين أغلى من الديمقراطية وحرية الرأى وحق الشعب فى إعلام محايد موضوعى نظيف؟.