تقلد عبدالحليم أبوغزالة وزارة الدفاع فى مارس ٨١، أى قبل اغتيال الرئيس السادات بنحو سبعة أشهر، ومع ذلك كان التقارب الفكرى بينهما لا حدود له وكان السادات يثق فيه، خاصة بعد تزكية «أبووافية» له كونهما من أبناء مدينة واحدة هى (الدلنجات) ذات الطبيعة الخاصة فى تركيبتها السكانية. وقد قمت بدراسة هذه المدينة أنثروبولوجياً فى منتصف الثمانينات عندما كلفت بذلك وأنا بالدراسات العليا فى جامعة الإسكندرية، وكانت هذه المدينة تتميز بأنها مجتمع قبلى وهم سادة المدينة يليهم العائلات ذات الانحدار الجينولوجى من الأتراك ويأتون فى المرتبة الثانية، بعدهم يأتى الوافدون للعمل بمهنة الزراعة فى أراضى العائلات الكبرى بالمدينة ومعهم خدم ينحدرون ممن كان يطلق عليهم العبيد. وأذكر ما سبق لأن هذا المجتمع تتحكم فيه ثلاث قبائل كل منها لها دور وهى قبيلة (أبووافية) وهى التى تحتفظ بالمكانة العلمية والتأثير الدينى بمحافظة البحيرة ككل ولذلك كثيراً ما كان يذهب السادات ويكون فى ضيافة عديله عدة أيّام يتم فيها مقابلة بعض الشخصيات الدينية والإخوانية حيث يمتثل السادات لنصائح «أبووافية» بخصوص التعامل معهم، والقبيلة الثانية هى (الدامى) وهى الممثل السياسى للمدينة ومنها يتم تصعيد نواب البرلمان وتلتزم كل القبائل بتأييد الاختيار ولا يمكن لأحد دخول حلبة تلك المنافسة معهم، أما قبيلة (أبوغزالة) فكانت معروفة بتجارة السلاح وجلبه لكبار القبائل التى تحتفظ بالسلاح كوجاهة اجتماعية ولذلك كانت تحفز أبناءها للالتحاق بالسلك العسكرى (جيش أو شرطة)، من هنا كان السادات يضرب عصفورين بحجر فهذه الشخصية المجسدة فى «أبوغزالة» يمكن من خلالها السيطرة على سوق السلاح الداخلى ويستفيد من تجاربه فى وضع خطة لتحويل الحالة الجهادية بالجيش بعد حرب أكتوبر التى لم تخمد بعد بالوسائل القبلية التى يحاكيها البناء الاجتماعى للمجتمع العسكرى والأمر الأهم هو صفقات السلاح التى بدأت تتم بين مصر وأمريكا والتى كانت سبباً فى اعتراض الفريق أحمد بدوى قبل الحادثة والتباعد الفكرى بين «بدوى» والسادات خاصة فى المدارس التى كان ينتمى إليها كل منهما سياسياً وعسكرياً حيث كانت أوجه اعتراض «بدوى» متعددة منها صفقة الطائرات حاملة الجنود المقبلة من خلال المعونة الأمريكية وعندما سأله السادات عن سبب اعتراضه قال إنه يرى وراءها استغلالاً، وأضاف أن هناك أناساً حولك يستغلون الصفقات العسكرية للإثراء منها وذكر تفاصيل شركة (الأجنحة البيضاء) التى تأسست فى أمريكا للحصول على العمولات من تجارة توريد السلاح لمصر والمنطقة العربية، وطلب من السادات وضع قواعد جديدة وأسلوب جديد للحصول على السلاح وفى كل صفقات تخص مستلزمات الجيش من ملابس وغذاء أيضاً، من هنا كانت معضلة السادات مع «بدوى» لكنه لم يجدها مع «أبوغزالة» الذى يعتبر أول من وضع حجر الأساس لإقامة مشاريع تخدم على المجتمعين العسكرى والمدنى وتقنن التعامل فى جميع الصفقات لمستلزمات الجيش وكانت النواة لـ(جهاز مشروعات الخدمة الوطنية) إلا أن القدر لم يمهل السادات ليرى حتى باكورة هذا، وتم اغتياله وهو مع أول سِلّمة فى رفاهية جمهوريته التى يأملها، علاوة على الخطة التحويلية التى بدأها «أبوغزالة» لتنقية صفوف الجيش من الحالة الجهادية المتطرفة التى كان قد بدأ يظهر بعض عناصرها فقاموا بتسريح من كان فى الاحتياط أما من يندرجون تحت مسمى (ضباط عاملين) مثل خالد الإسلامبولى أو عبود الزمر فلم يكن الجيش قد بدأ فى التخلص منهم أو تحويلهم طبقاً لخطة «أبوغزالة» التى لم تكن بدأت عملها بعد، وفى ذلك يقول فؤاد نصار، مدير المخابرات العامة وقتذاك: (ساعة الاغتيال كنت فى المنصة وراء الريس وكنا متوقعين بالفعل أنه ممكن يحدث اغتيال له ولكن ربنا أراد كده والاغتيال تم بطريقة قدرية، حيث كان فيه ضباط معينين مسئولين عن طابور العرض ومن يشارك فيه من أفراد وبعد البروفات بيروحوا يباتوا فى مدينة نصر علشان يجهزوا نفسهم...».