«على الحاكم أن لا يكون طيباً على الدوام فى علاقاته مع رعاياه».. «على الحاكم أن لا يكون كريماً على نحو يؤدى لفقره».. «على الأمير أن لا تعبأ علاقاته بمحكوميه بقضايا الأخلاق والظلم والخير والشر.. ليس هذا وحسب، بل من الممكن أن يستدعى الأمير الرذائل للوصول إلى غايته النهائية وهى تمكين السلطة».. هذا الكلام كتبه نيكولا ميكافيلى الإيطالى الأصل والذى يعد أشهر الكتاب السياسيين فى التاريخ، فى كتابه «الأمير» الذى نُشر فى القرن السادس عشر.
ميكافيلى كان هدفه نبيلاً، وهو التطلع لتوحيد بلاده بعد أن قُسِّمت إلى عدة إمارات، وكما نعرف جميعاً هو مؤصل فكرة «الغاية تبرر الوسيلة»، وكان مؤمناً بأن السياسة ليست ما تمليه الأخلاق ولكنها عبارة عن دروس مستفادة من التاريخ وتصحيح الماضى، كما أن للنضال طريقتين؛ إحداهما بحسب القوانين، والأخرى باستخدام القوة، وعلى الأمير أن يفهم جيداً كيف يستخدم كلتا الطريقتين، طريقة البشر وطريقة الوحوش.
ومن هنا جاءت فكرته الشهيرة بأن الأمير مطالب بأن يكون ثعلباً وأسداً فى الوقت ذاته، لأن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الفخاخ، والثعلب لا يمكنه حماية نفسه من الذئاب.
ولهذا رأى ميكافيلى أن الأمير لا بد أن يتحلى بالقوة والبطش كالأسد، وأن يتسم بالمكر والخديعة والنفاق كالثعلب، وكان يرى أنه لا ضرر على الإطلاق أن لا يحافظ أكثر الحكام حزماً على كلامه ووعوده إذا كان فى هذه المحافظة ضرر على السلطة، وبرر ذلك بأن الجميع خائنون، ولا يثقون بالأمير، ولذلك وجب عليه أن لا يثق بهم.
ومن هنا وصل ميكافيلى إلى حقيقة مهمة؛ أنه من الأفضل أن يهاب الناس حكامهم من أن يحبوهم. لأن الخوف يبقى والحب يزول.
هذه الأيام أجد نفسى منجذبة تماماً إلى قراءة هذا الكتاب مرات ومرات لما نشهده فى العالم الآن من تطورات وأحداث استثنائية على الصعيد السياسى والاقتصادى والاجتماعى والقيمى والأخلاقى يجعلنا فى حيرة شديدة مما يحدث، ونقف عاجزين عن فهم الأحداث الدائرة.
فكم التناقضات التى يمارسها قادة وزعماء العالم الآن تدفعنا إلى القراءة المتعمقة فى فلسفة وماهية صناعة الحكم مرة أخرى، وإلى إعادة قراءة هذا الكتاب عدة مرات، أجد نفسى توصلت إلى مجموعة من التفسيرات التى توضح على الأقل بالنسبة لى فلسفة ومنطلق التطورات التى يشهدها العالم الآن، والتى كشفت الوجه القبيح للادعاء بقيم الإنسانية والديمقراطية والحرية والمساواة، حيث سقطت الأقنعة وأصبح الوضع أكثر وضوحاً نتيجة لاختلال ما فى استراتيجية إدارة العالم التى رسمها الكبار، وتدخل «المفعول بهم» قليلاً فأحدثوا هذه الفوضى التى ستستمر حتى ينتهى الكبار مرة أخرى من إعادة صياغة الاستراتيجية وفقاً للقواعد القديمة.
وتوصلت فى تحليلى للمشهد لمجموعة من الحقائق التى أرغب فى أن أضعها بين يدى القارئ وأهمها:
1- دول العالم المتقدم سبقت الجميع فى تطبيق قواعد ميكافيلى وتخطت الجزء الصعب وأصبح لديها الآن الحنكة والتكتيك لأن تتلاعب مع حديث العهد بالسياسة كقطع الشطرنج.
2- لا وجود على الإطلاق للقيم الأخلاقية أو الإنسانية فى أعتى النظم الديمقراطية فى العالم، وإنما هى أساليب ضغط وليست منجهاً أو عقيدة.
3- السياسة تتغير بين اللحظة والأخرى وفقاً لطبيعة المرحلة التى يقف بها كل مفاوض، وقائمة أولوياته وليس وفقاً لقائمة قواعد ومبادئ على الإطلاق.
4- إن الغاية تبرر الوسيلة حقاً، لأن العالم ينظر إلى النتائج وليس لطرق الوصول إليها، والبقاء دائماً يكون للأقوى وليس للأفضل.
وهذا لا يعنى اتفاقى مع هذه المبادئ لكن للأسف نمر بظرف تاريخى تزامناً مع أصعب الفترات التى يشهدها العالم على الأقل فى الفترة الزمنية لحياتنا، ولابد أن نتوقف عن المفاجأة من الأحداث الحالية لأن القادم سيكون أكثر غرابة وأشد دهشة، فقد دخلنا فى مرحلة اللامعقول واللامضمون.