تربطنى بالأستاذ الفذ يحيى حقى أواصر عديدة، أولها إعجابى به بغير حدود، وتأثرى بأسلوبه فى ضبط الكلمات كالجواهرجى، وإيثاره جرس العين على جرس الأذن، وتبنيه ومعه الدكتور محمد مندور ما يسمى «الشعر المهموس»، وثانيها أنه مثل لى مع توفيق الحكيم ومحمد التابعى، وأترابهم من خريجى كليات الحقوق، كيف أعطتهم الدراسة فيها مدداً لا ينضب، ومنطقاً صلداً، فتنوع عطاؤهم بقدر تنوع ما أعطاهم هذا المعهد العظيم من مدد وتنوع، وثالثها أنه دفعة المرحوم أبى الأستاذ عطية عبده المحامى والأستاذ توفيق الحكيم، تخرجوا معاً سنة 1925 من حقوق القاهرة أيام أن كان مسماها مدرسة الحقوق الملكية، وكان يحيى حقى أسبقهم فى الترتيب مع أنه أصغرهم سناً، فكان ترتيبه الرابع عشر بينما كان ترتيب توفيق الحكيم الرابع والثلاثين بعد مائة من جملة الدفعة البالغة مائة وخمسة وثلاثين خريجاً، أما أبى (رحم الله الجميع) فقد احتل موقعاً متوسطاً فى النصف الثانى من الدفعة. ورابعها أننى حين لاقيته شخصياً بأمسية يوم 4 مارس سنة 1976 بفندق شبرد للحصول على موافقته على قيامى بوضع سيناريو وحوار لإحدى قصصه القصيرة لتجسد تليفزيونياً وتُعرض ويشملها الحوار فى برنامج قصة قصيرة، لاقيت من تواضعه وبساطته ودفء مودته ومعاملته ودماثته ما احتوانى ورفع منزلته عندى درجات فوق الدرجة السامقة التى كنت أحملها قبل أن ألقاه، وبدا لى بفرحة التلميذ حين أخبرته بأنى ابن زميله بالدفعة، وجعل يتذكَّر فرِحاً أيام التلمذة الخوالى، وخامسها أنه لم يتشرط لقاء معالجة وبث قصصه كما كان يتشرط سواه، بل قبِل مائة وخمسين جنيهاً فقط فى حياء، لم يضاهِه سوى حيائه فى أن يطلب منى معالجة قصته «امرأة مسكينة»، لأن حظها مسكين، وهى أثيرة لديه، فلما سألته أين نشرت فلم أسمع بها سلفاً، اقترح أن ألاقى الدكتور حمدى السكوت فى الجامعة الأمريكية، مقدراً أنه سيساعدنى فى الوصول إليها، وقد كان!
وتستطيع أن تعتبرنى من مدمنى يحيى حقى وعشاقه.
وكلما عدت إلى كتابات يحيى حقى، أدركت كم كان هذا الأديب فذاً من عملة نادرة.. عدسته لامَّة قادرة على تجميع الشذرات وتقديم اللمع الوامضة التى تلفتك إلى ما يمر على الكثيرين مر الكرام!
دموع يحيى حقى
فى تقديمه لكتابه البديع: «دمعة.. فابتسامة»، كتب يحيى حقى: «دلق الزنبيل، أصدق وصف لهذا الكتاب، فهو خواطر متناثرة، فى موضوعات شتى لا روابط بينها، ذكريات وأدب وفكاهة، يمثل كل مقال همومى وقت كتابته، ومن ورائها جميعاً دافع واحد.. عناصر الكلمة، وبحث قلب عمن ينصت لنجواه».
ولكنك على طول وتنوع ما تطوف به مع يحيى حقى فى فصول ومشاهد واسكتشات هذا الكتاب، لا يمكن أن تعرف هل حقيقة تسبق الدمعة الابتسامة، أم تسلسلك الابتسامة إلى دمعة؟! ومع ذلك فقد وجدت بين فصول الكتاب فصلاً بلا بسمة، كله دموع.. «نكبة روحية».. العنوان الذى اختاره يحيى حقى لهذا المقال الذى نشر بالمساء 11/5/1965.
فى ذلك الوقت لم تكن قد دهمتنا بعد نكسة 1967، ولا كانت قد أدركتنا أغلاط الخلط بين العدو والصديق! المقال من وحى حوارات بين يحيى حقى وحسين ذو الفقار صبرى الذى أوفد على رأس بعثة صغيرة تزور بلاداً عديدة لتشرح قضية العدوان على الشعب العربى فى فلسطين.. كان ذلك فى ستينات القرن الماضى!
فى تضاعيف الحوار، كيف ومنذ الشباب ساقت دراسة اللغات وتعدد الترحال، ساقت يحيى حقى إلى آفاق بدت أكثر اتساعاً، انهدمت فيها الحدود بين الأقوام، فى حاضرها وماضيها، وضمت فى ركب واحد الأشباه والنظائر.. ركب دعاة الفضيلة والهداية إلى رب خلق الجميع لميعاد هداية لأرواحهم التى هى قبس من نور الله، فى ظلال هذين الركبين انهدمت الأسوار عند يحيى حقى بين الأديان واللغات والأجناس والأوطان.. يحلم بجنة لجميع المؤمنين الصالحين من كل ملّة، فرحمة الله أوسع من كل ظن.. بلغة واحدة مصدرها القلب، وبجنس واحد اسمه الإنسان بلا فرق لون، ولوطن واحد هو أمنا الأرض. مضت أحلام الوجدان الغض ترفع الحواجز والحدود، وتلغى الأسلحة والجيوش والحروب، وتفتح آفاق الحركة والترحال بلا دفاتر ولا استبدال نقود ولا جوازات مرور!
أغمض يحيى حقى عينَيه على هذا الحلم، ولكن حين فتحهما باغتته العنصرية تعود فى أبشع صورها فتؤسس إسرائيل، وتوحد هناك بين الجنس والدين، وتراهما شيئاً واحداً هو وحده الذى يعطى الانتماء إليها. رفس اليهود النعمة التى أطلت بالاندماج بلا اضطهاد فى الشعوب التى يعيشون بينها، وأبوا إلّا أن ينفصلوا ليقيموا إسرائيل فى فلسطين على جثة وطن وشعب، فكشفوا كذب ما كانوا به يحلفون أنهم لا يحملون جنسيتين ولا يدينون بولاءين!
وبدلاً من أن يسير العالم إلى الأمام نحو زوال الفروق بين الأجناس والأديان، إذ به يرجع القهقرى فى ردة زلزلت القلوب.. والأدهى أن تكون الجريمة دعامة قيام دولة!
الحكومة الملكية السنية!
عن «الحمارة الزرقاء» التقطت كاميرا يحيى حقى نوعاً من الإعلانات التى كانت تنشر إبان الحكم المملوكى عن بيوع بالمزاد العلنى لحمارة الفلاح أو طسته أو محصوله اليسير وفاء بحق دايرة فلان باشا الفلانى. الحمارة الزرقاء عنوان متكرر فى بيوع المزاد، يقول يحيى حقى إنه قرأ عنها مراراً قبل أن يتشرف بمعرفتها ولقائها وجهاً لوجه. الإعلان عنها كان مختصراً من خمس كلمات: «حمارة زرقاء سن عشر سنوات»، وأحياناً يكون الإعلان من ست كلمات إذا بالغ المزايد فى بيان البضاعة، فيضيف مثلاً أنها «عرجاء»! أو أنها سوف تباع بالمزاد مع طشت صفيح وثلاث كيلات ذرة، سداداً لمبلغ (12) جنيهاً وبضعة مليمات. كان المليم لا يزال معروفاً متداولاً فى ذاك الأوان، وكانت هذه عينة من إعلانات بيوع ممتلكات الفلاحين وكم كانت زهيدة! بالمزاد وفاءً بمديونيات أصحاب الملك والدواير والأبعاديات!.. وأحيانا بناءً على طلب الخاصة الخديوية، أو الخاصة السلطانية!
يروى يحيى حقى كيف دخل حسين رشدى باشا رئيس الوزراء على السلطان حسين المتسمى بلقب «أبوالفلاحين»، وكان بينهما وقرينتيهما صداقة ومودة، ليفرد أمامه صحيفة ورد بها اسم الخاصة السلطانية، ويشير إلى الإعلان ويقول عاتباً: «عيب يا مولانا»!
ولكن ما هو العيب؟!. العيب الذى قصده رئيس الوزراء لم يكن إلا عن النشر! أن يقرأ الناس أن الخاصة السلطانية تبيع متاع ومؤونة فلاح مسكين من أجل (12) جنيهاً و(25) مليماً! تلاحقه الخاصة ملاحقة الكلاب السلوقى حتى تصرعه فى سوق البلدة!
الذين يتباكون على عهد الملكية
للذين انطلقوا الآن فى ردة التباكى على عهد الملكية، أهديهم من كلمات يحيى حقى: «وقد بلغ نشاط الإدارة فى خدمة أرض الجالس على العرش ذروته فى عهد فؤاد وفاروق. وسألت مرة فلاحاً عن أعز أمنية له، فقال لشدة دهشتى: «ألّا تشترى الخاصة الملكية أرضاً فى بلدنا»!
ترى هل اقتصرت الردة على التباكى على الملكية الآفلة؟!. لقد انقض الثراء بشدة على الأراضى هنا وهناك، ولكنها أراضٍ من نوع آخر يجرى فيها التسقيع على الواسع بعد الشراء بأبخس الأثمان، فتتكون من حصيلة الشراء الحرام من ممتلكات الدولة، والبيع الحرام بمئات الملايين، ثروات هائلة تهون أمامها أبعاديات الأمس!
لقد تغولت الثروة وترعرعت فى بر مصر، واستشرى وتفشى فيها الفقر والفقراء! ومن الغريب اللافت أن الثروة لا تتفطن للخطر المقبل من الفقر والإملاق! لو تفطنت الثروة للغضب المنحبس فى الصدور، لاعتدلت وارعوت قبل أن يأتى طوفان يكتسح الجميع بلا تمييز!!