انشغل قطاع من المصريين بفستان مثير للجدل ارتدته فنانة مصرية فى ختام مهرجان سينمائى، وهى هوجة «فستانية» تذكّرنى بفستان آخر كانت له قصة طريفة.. منذ ثلاث سنوات نشرت فتاة اسكتلندية تُدعى «كيتلين ماكنيل» صورة بمواقع التواصل الاجتماعى لفستان اختلفت الآراء حول لونه الحقيقى، البعض يرونه باللونين الأبيض والذهبى، والبعض الآخر يؤكدون أنه باللونين الأزرق والأسود، وبينهما فئات أخرى أقل عدداً رأته بتدريجات لونية مختلفة. انتشر الأمر على مواقع التواصل الاجتماعى للدرجة التى جعلت من لون الفستان قضية عالمية شارك فيها مشاهير الفن والرياضة.
كان السبب العلمى فى تضارب رؤيتنا لألوان الفستان الحقيقية يكمن فى الطريقة التى اعتادت بها عيوننا وعقولنا أن تميز اللون فى الضوء وفى الظلام، وكيف أن العقل يحاول عمل إزاحة للألوان لكى تبدو دائماً كما يجب أن تكون عليه وليس كما هى فى الواقع الفعلى. الأمر يتقاطع أيضاً مع مستقبلات الألوان المختلفة، وكيف أن تلك المستقبلات لا توجد بالكثافة ذاتها عندنا جميعاً، ولهذا تختلف رؤيتنا للأشياء.
أهم ما خرجنا به من معركة الفستان تلك هى أنه ربما نكون مختلفين فى تلقى أنماط لونية أخرى كثيرة حولنا طوال الوقت دون أن ندرك أننا مختلفون! من يدرى. ربما يحدث هذا بالفعل، ولكن لم يفكر أحدنا يوماً فى جعل الأمر جدلياً على مستوى دولى. وبالمناسبة لون الفستان -تبعاً لمصممه- كان الأزرق، وهو لون مهم فى الملابس ساهم فى كتابة تاريخ شيق، عبر أشهر بنطال أزرق، وهو البنطال الجينز، فقصته شيقة للغاية وتصلح للتأريخ لفترة من التطور الإنسانى. ففى القرن التاسع عشر كانت موسيقى كل من «يوهان شتراوس» الأب والابن تصدح فى أرجاء النمسا ويتردد صداها فى كافة أنحاء أوروبا، لكن «شتراوس آخر»، من أصل ألمانى أيضاً، كان على موعد مع المجد.. «ليفى شتراوس» كان بائعاً متجولاً فى أمريكا يبيع الملابس وأشرعة المراكب، زبائنه من البحارة وعمال المناجم. لاحظ أن ملابس العمال كثيرة التمزق، فقرر ببساطة أن يصنع بنطالاً من الأقمشة القوية الزرقاء لأشرعة السفن، وسُميت «جينز» نسبة إلى مدينة «جنوة» الإيطالية التى كان يأتى منها هذا النوع من القماش. وأنشأ بعد ذلك مصنع «ليفايز» وهو الماركة التى لا تزال تحيا بيننا حتى الآن.
اتسعت شريحة زبائن «ليفى شتراوس» لتشمل رعاة البقر وعمال المناجم وعمال حقول البترول وغيرهم. عند هذا الحد كان «الجينز» مجرد بنطال لأبناء الطبقات المتدنية. وأعتقد أن أصل هذا البنطال أقدم من «ليفى شتراوس» ويعود إلى إنجلترا أوائل القرن السابع عشر، وكان يُصنع من قماش «الدنيم» (وهو نسيج قطنى قوى يُصبغ فى الغالب باللون الأزرق). الطفرة الحقيقية حدثت فى ستينات القرن الماضى، وأصبح البنطال الجينز بمثابة رمز حركة الاحتجاج لدى الطلبة، خصوصاً فى فرنسا، التى انتقلت الآن من البنطال الأزرق إلى «السترة الصفراء»، لكن هذا موضوع آخر.