كل واقعة تقسيم يشهدها السودان تخلف آثاراً غير محمودة العواقب على شعبه الطيب وشعبنا الصبور. تعلم أن هذا القطر الشقيق كان جزءاً من الدولة المصرية حتى عام 1956. فى ذلك العام سمحت السلطة الجمهورية الجديدة فى مصر بإجراء استفتاء تحديد مصير للسودانيين، وافق أغلب المشاركين فيه على الانفصال عن مصر. ومنذ هذا التاريخ، واجه السودان مشكلات اقتصادية وسياسية داهمة. فقد كانت مصر الداعم الأكبر للسودان على المستويات الاقتصادية، وتحمّلت خزانتها ملايين الجنيهات قبل يوليو 1952 لتطوير السودان ورعايته اقتصادياً. مغزى هذا الدعم كان معلوماً بالضرورة، فالسودان يمثل عمقاً استراتيجياً لمصر، والنيل الذى يربط بين الدولتين فرض على صانع القرار المصرى أن يظل القطران لحمة واحدة. ومنذ عصر محمد على، وهناك وعى كامل لدى السلطة بأن وادى النيل دولة واحدة، تشمل كلاً من مصر والسودان.
لم يعانِ السودان وحده من الانفصال، بل عانت مصر أيضاً، وخسرت الكثير بسبب هذه الخطوة. كانت هناك أسباب موضوعية عديدة دفعت «عبدالناصر» إلى منح السودان حق الحكم الذاتى، أولها أنه كان قائد ثورة تحرّرية تؤمن بحق الشعوب فى تقرير المصير، واتساقاً مع هذا التوجه كان من الطبيعى أن يمنح السودانيين حق الاختيار بين الحكم الذاتى أو الاندماج فى مصر، وثانيهما أن السودان كان يشكل باستمرار عقبة فى طريق أى تفاوض مع الإنجليز على استقلال مصر. ويسجل سعد زغلول فى مذكراته أن الإنجليز عرضوا عليه أثناء نفيه إلى مالطة أن يضعوه ملكاً على مصر ويمنحوا الدولة استقلالاً كاملاً مقابل التنازل عن السودان، وهو ما رفضه سعد باشا وقتها. لكن القارئ لتاريخ مصر فى الستينات يستغرب وهو يلتمس العذر لجمال عبدالناصر فى منح السودان حق الحكم الذاتى فى وقت يجده يرسل بقواته إلى اليمن من أجل دعم الثورة الجمهورية الوليدة ومحاربة الملكيين المدافعين عن نظام الإمامة بدعم من المملكة العربية السعودية!.
بعد وفاة الرئيس عبدالناصر تبنى «السادات» سياسة مختلفة ودعم العلاقة بين مصر والسودان، وتم توقيع اتفاقية للتكامل الاقتصادى بين الدولتين، وتحسّنت العلاقات بينهما بصورة كبيرة، لكن الأمر اختلف بعد ذلك فى عهد «مبارك»، فبعد وصول نظام البشير إلى سدة الحكم عام 1989، وافتضاح وجهه الإخوانى توتّرت العلاقة بين القاهرة والخرطوم، وازدادت درجة التوتر بعد تعرّض «مبارك» لمحاولة اغتيال فى أديس أبابا، واتهمت مصر الحكومة السودانية بالتورّط فيها. وكانت النتيجة أن نفض «مبارك» يده من السودان، وترك الساحة لغيره، وعندما حاول تصحيح هذه الأوضاع مع بداية الألفية الجديدة، لم يكن لمحاولاته الأثر المطلوب. أصبح السودان -الذى ابتعدت عنه مصر- ساحة للاعبين كثر، وتمخضت هذه الأوضاع عن استفتاء جديد أخطر من استفتاء الانفصال عن مصر، هو استفتاء يناير 2011 الذى انفصل بموجبه جنوب السودان عن شماله، لتتعقّد حياة الشماليين بسبب سيطرة الجنوب على نسبة تقترب من 75% من بترول السودان. واللافت أنه بعد وقوع هذا الاستفتاء بأسبوع واحد اندلعت ثورة يناير ضد «مبارك». وكأن أى صدع فى السودان لا بد أن يؤدى إلى شرخ فى مصر.