لا يكاد يمر يوم إلا ونشهد مخالفة صارخة تأتى عبر أحد البرامج الدينية؛ فمرة ترد فتوى صادمة منتزعة من سياق مهجور عبر إحدى الفضائيات، لتُعيدنا قروناً إلى الوراء، ومرة ثانية تؤجّج تصريحات يُدلى بها «عالم دين» نار فتنة طائفية مهلكة، ومرة ثالثة يُغرق أحد البرامج مشاهديه فى عوالم الدجل والشعوذة، ومرة رابعة تتم استضافة «داعية» مثير للجدل، لكى يدلى بدلوه فى قضية شائكة وحساسة، فيصدمنا بعبارات حادة واقتراب مسىء ومهين وعنصرى.
ليست تلك بالطبع جميع المخالفات التى يمكن أن تصدر عن القنوات الدينية، أو عن البرامج التى تقدم محتوى دينياً على الفضائيات العامة؛ إذ يهيمن الفقر الإنتاجى على معظم تلك الفضائيات والبرامج، وينحسر الخيال الإبداعى للقائمين عليها، فلا يدركون أن ثمة أكثر من عشرين نمطاً لتقديم عمل تليفزيونى ذى طابع دينى مبدع، ويحصرون جميع تلك الأنماط فى نمط واحد تقريباً، لا يخرج عن «واعظ أو عالم أو داعية» يتحدث إلى الجمهور من جانب واحد، أو محاور «مستسلم» تماماً يجرى حواراً مع أحد العلماء.
زادت حدة الانتقادات الموجّهة للفضائيات الدينية زيادة كبيرة فى الفترة الأخيرة، خصوصاً عندما ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها قادرة فعلاً على تأجيج الفتن الطائفية والمذهبية وتعميق الأحقاد بين أتباع الديانات والمذاهب المختلفة.
وجاءت «السوشيال ميديا» لتعيد إنتاج بعض أنماط المحتوى الدينى السيئة، وتجزئتها، وإعادة بثها، ليتضاعف أثرها عشرات المرات.
يساعد الانسداد السياسى الذى يعانى منه العالم العربى، وتسلط الحكومات، وتردى الاقتصاد، والتراجع العلمى والثقافى المزرى، وبعض مروجى الفتن من أصحاب المصلحة فى إنهاك المجتمع وصرفه عن قضاياه الرئيسية، فى زيادة قابلية الجمهور للانقياد إلى بعض الممارسات الخاطئة التى ترد عبر الإعلام الدينى الفضائى.
وبسبب «الفراغ السياسى» المصطنع، يعاد إنتاج «أجندة الأولويات» على نحو مدروس، فتتصدّر تلك الأجندة قضايا خلافية ومذهبية وطائفية، تحت اسم «الدين»، لتغيب القضايا الجادة ذات الصلة بالإصلاح السياسى والاجتماعى ومحاربة الفساد وتقييم الأداء الاقتصادى.
لا يجوز أن يطالب أحد بمنع أو تقييد، أو الحد من المحتوى الدينى المقدّم عبر الفضاء، خصوصاً أن هذا المحتوى ليس بالكثافة التى يعتقدها البعض. هناك نحو 122 قناة فضائية ناطقة بالعربية يمكن اعتبارها دينية، أو يهيمن المحتوى الدينى على معظم أجندة البث بها، لكن مع هذا فإن القنوات الدينية تأتى فى المرتبة الرابعة بين أنماط المحتوى الأخرى.
فاللجنة العليا التنسيقية بين الفضائيات العربية تفيد فى تقرير حديث لها بأن قنوات الموسيقى والأغانى تهيمن على الفضاء العربى بنسبة 23%، تليها قنوات الدراما، سواء كانت مسلسلات أو سينما، بنسبة 14%، ثم الرياضة بنسبة 11%، فالدين بنسبة 8%، قبل أن تأتى القنوات ذات المحتوى الإخبارى بنسبة 7%.
لا تحتل القنوات الدينية رأس أجندة أولويات الجمهور العربى، ولا تمثل الوجهة الأولى لصانعى الفضائيات، ولا تظهر بكثافة لافتة بين أنماط المحتوى الأخرى، لذلك فليس هناك أى مبرر للحديث عن تقييد من أى نوع لإطلاق مثل تلك الفضائيات، خصوصاً أن مجتمعات غربية أخرى تعرف درجة كبيرة من النزوع المادى تشهد نسب مشاهدة وبثاً لمحتوى دينى، مقاربة لما يحدث فى العالم العربى.
لكن الإشكال الأكبر فى ما يتعلق بمنظومة القنوات الدينية الناطقة بالعربية يتعلق بنوع الإسناد الدينى الذى يقف وراءها. فثمة قنوات سلفية تهتم بالترويج لقيم السلف وإعلاء شأنها، لكن قنوات سلفية أخرى تجعل الهجوم على الشيعة هدفها الرئيسى.
وهناك قنوات شيعية تركز على تقديم الفتاوى أو استعراض سير المراجع، لكن قنوات شيعية أخرى تنال من كرامة الرموز السنية وتجعل من السلفيين هدفاً لهجماتها المتلاحقة. الأمر يتكرّر أيضاً من خلال بعض القنوات المسيحية، خصوصاً تلك التى تبث من خارج المنطقة، التى تهين المسلمين وتشكك فى عقيدتهم، وترد على قنوات إسلامية تجعل أهدافها الحط من عقيدة المسيحيين و«تفنيد» كتابهم المقدس.
يقدم هذا النوع من المحتوى أفضل الذرائع لدعاوى منع القنوات الدينية أو حظر ترخيصها، خصوصاً أن تلك القنوات أفرزت نجوماً باتوا رموزاً للفتنة ووقوداً مؤججاً لها، والواقع أن المنع والحظر لن يفيد فى وقف التجاوزات، ليس لأن المجتمع سيقف ضده لتناقضه مع الحريات، لكن لأنه لم يعد ممكناً. فى ظل ثورة الاتصالات الأخيرة، ستتكفل «الإنترنت» والهواتف الذكية وطرق البث المبتكرة عبر الأقمار الاصطناعية الأوروبية، التى يمكنها أن تدور فى المدارات ذاتها التى تستخدمها أقمارنا، بتقديم أفضل الفرص لـ«الدعاة» الممنوعين لكى يصبحوا نجوماً ويتضاعف عدد أتباعهم ومناصريهم مرات ومرات. وبعد استبعاد المنع، سنعرف أن القانون أيضاً لن يكون قادراً على ملاحقة جميع مواطن الفتن والخلل فى أنماط المحتوى الدينى المقدم فضائياً؛ فثمة أنماط لا تعاقب عليها القوانين فى بعض بلادنا، وهناك «دعاة» وصناع برامج يبثون من خارج المنطقة، كبعض القنوات الشيعية والمسيحية التى تبث من أوروبا أو الولايات المتحدة، كما ستتكفل «السوشيال ميديا» والمواقع الإلكترونية ببث أى محتوى حاد تمنعه سلطات البث الرسمية.
لم يبقَ لصداع القنوات الدينية علاج حاسم؛ لذلك يجب العودة إلى العمل المنهجى المؤسسى المنظم؛ الذى يبدأ بإنتاج محتوى دينى أكثر منافسة وجودة وحداثة واتساقاً مع المقاصد النبيلة للأديان من خلال مؤسسات التلفزة العامة، مع العمل على علاج التشوهات والاختلالات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن قصور فى أدوار مؤسسات التعليم والثقافة وأنماط التنشئة، وصولاً إلى تطوير عمل الهيئات المنظمة للبث الإعلامى الناطق بالعربية، التى يجب أن تعلن معايير واضحة وملزمة يجب الالتزام بها عند صناعة البرامج، على أن تسرى على المحتوى الترفيهى والرياضى والإخبارى أيضاً وليس المحتوى الدينى فقط، وعلى أن تحظى بفرص إدانة المخطئين علناً، وحملهم على الاعتذار، أو تغريمهم، عبر سياسات تقييم عادلة وشفافة.
يجب ألا نسعى إلى الحد من المحتوى الدينى الذى يقدم عبر فضائياتنا، ولا إلى منع أو تقليل عدد القنوات الدينية، لكن علينا أن نسعى إلى تقديم محتوى دينى أقل انغلاقاً وتعصباً وتلاعباً بغرائز الجمهور وأكثر حداثة واعتدالاً واتساقاً مع المقاصد النبيلة للأديان.