تصاعدت فى الآونة الأخيرة وتيرة الحديث عن مجانية التعليم، وتعددت الأصوات الداعية إلى إلغاء المجانية وقصرها على المتفوقين فقط. ونعتقد أن السبب وراء ذلك هو عدم قدرة الحكومات فى كافة دول العالم على الصرف على التعليم بما يستلزمه من نفقات طائلة. وفى الحالة المصرية، ورغم أن المادة التاسعة عشرة من الدستور تقرر التزام الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للتعليم لا تقل عن (4%) من الناتج القومى الإجمالى، تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية، فإن الحكومة لم تستطع الوفاء بهذا الالتزام الدستورى حتى تاريخه. وإذا كانت مجانية التعليم مقررة بنصوص الدستور والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، ولا يجوز بالتالى الحديث عن إلغاء المجانية على الأقل فى الوقت الحالى، فإن النقاش ينبغى أن يتجه صوب التمويل الذاتى للمؤسسات التعليمية ولاسيما الجامعات والمعاهد البحثية.
وما دمنا نتحدث عن التمويل الذاتى للجامعات، يتعين الإشارة إلى المادة 189 من قانون تنظيم الجامعات، والتى تخول للجامعة أن تتصرف فى أموالها وتديرها بنفسها، بما فى ذلك المساهمة فى إنشاء ودعم الجامعات الأهلية أو القيام منفردة أو بالاشتراك مع القطاع الخاص والأهلى بالمشروعات ذات الطبيعة التعليمية أو البحثية أو الابتكارية، وغيرها من المشروعات الخدمية أو الإنتاجية من أجل استخدام البحوث التطبيقية والنهوض بالمجتمع، وكذلك توفير موارد ذاتية للجامعة، للنهوض بأغراضها فى التعليم والبحث العلمى والتنمية وخدمة المجتمع. والواقع أن الحكم سالف الذكر مستحدث، فلم يكن نص المادة 189 بهذه الصورة فى قانون تنظيم الجامعات عند صدوره لأول مرة، حيث تم تعديلها بالقانون رقم 12 لسنة 2009 بشأن إصدار قانون الجامعات الخاصة والأهلية وبتعديل نص المادة 189 من قانون تنظيم الجامعات الصادر بالقانون رقم 49 لسنة 1972م. كذلك، ينبغى الإشارة إلى قانون حوافز العلوم والتكنولوجيا والابتكار رقم 23 لسنة 2018م، والذى يخول لهيئات التعليم العالى والبحث العلمى منفردة أو بالاشتراك مع الغير استغلال البحوث العلمية للنهوض بالمجتمع وتوفير موارد ذاتية لها للنهوض بأغراضها فى مجالات البحث العلمى والتنمية وخدمة المجتمع. كذلك، يجيز القانون لهيئات التعليم العالى والبحث العلمى تأسيس شركات بمفردها أو بالاشتراك مع الغير فى مجال تخصصها البحثى بهدف استغلال مخرجات البحث العلمى، وللسلطة العلمية المختصة الموافقة على اشتراك الباحثين فى تلك الشركات بنسبة تحددها، وذلك مقابل استخدام مخرجات البحث العلمى والتطوير التى تقوم الشركة باستخدامها واستغلالها. وهذه الأحكام يمكن أن نجد نظيراً لها فى بعض التشريعات الأجنبية، كما هو الشأن فى القسم الخامس من قانون الجامعات الفنلندى رقم 558 لسنة 2009م، بنصه على أن «يجوز للجامعات العامة أن تتعهد بالالتزامات وأن تحصل على حقوق باسمها وأن تمتلك ممتلكات منقولة وغير منقولة، ويجوز للجامعات المشاركة فى الأنشطة التجارية، شريطة أن تدعم هذه الأنشطة أداء المهمة المنصوص عليها فى القسم 2».
وأخيراً، لعل القارئ الكريم بدأ يسمع مؤخراً عن تعبير «جامعات الجيل الثالث»، وهى جامعات لا تقوم على التدريس والبحث العلمى فقط، ولكن تعتمد على تحويل الجامعة إلى حاضنة للإنتاج والاستثمار التقنى. وقد قيل إن إحدى القوى الدافعة للتوجه إلى جامعات الجيل الثالث هو التغيير الحاصل فى موقف الحكومات، والتى أصبحت تقتصد فى تمويل النشاط البحثى، مستعيضة عن نقص التمويل الحكومى بتعزيز الأنشطة الاستثمارية والإنتاجية للجامعات. وهكذا، يحق لنا استشراف المستقبل والقول بأن جامعات التمويل الذاتى ربما تكون هى الوضع السائد فى جامعات المستقبل، والله من وراء القصد.