التكنولوجيا أوجدت بديلاً لكل شىء؛ للأرض؛ فأصبح يمكنك الزراعة فوق سطح القمر والمريخ وفى الصوب المعلقة، للبشر؛ فأصبح يمكنك تصميم مصنعك بالكامل للاعتماد على «الروبوت» كبديل للإنسان، للنقود؛ فأصبح يمكنك الاعتماد على العملات الرقمية فى تحريك أموالك من أقصى الأرض لأدناها، ولكنها لم تستطِع حتى اليوم العثور على بديل أقل تكلفة من النفط والغاز الطبيعى.
لذا احتفظ النفط بوصفه السلعة الاستراتيجية فى كل العصور، منذ أن عرفت البشرية استخدامه على يد البابليين فى العراق، والصينيين فى شرق آسيا، فى القرن الرابع الميلادى تقريباً، مروراً بإنشاء أول مصفاة للنفط فى العالم عام 1856 على يد إغناسى لوكاسيفيتش فى المنطقة الواقعة بين بولندا وأوكرانيا حالياً. وأطلق عليه الجميع اسم «الذهب الأسود»، حيث كان سبباً رئيسياً فى تقدُّم ونهضة العديد من الدول، نتيجة الاكتشافات النفطية والغازية الضخمة التى وجدوها، والتى كانت لهم بمثابة «الكنز الذى هبط من السماء».
ووفقاً للتقرير الدولى المنشور على «جلوبل داتا إنرجى»، فإن مصر واحدة من ضمن الدول العشر الأولى على مستوى العالم التى تمتلك احتياطيات كبرى من الغاز الطبيعى بالمياه العميقة، مقدّراً ذلك الاحتياطى بنحو 18.852 تريليون قدم مكعب قابلة للاستخراج، وتكون لها جدوى اقتصادية.
وبرغم أن إنتاج مصر من الغاز الطبيعى حالياً يدور حول 6 مليارات قدم مكعب يومياً، إلا أن مصر قادرة فى غضون فترة وجيزة على رفع إنتاجها إلى 10 مليارات قدم مكعب يومياً، خاصة بعد الاكتشافات الغازية الضخمة الأخيرة التى تصدّرها حقل ظهر.
وتؤهل وفرة الغاز الطبيعى لمصر لتعزيز وضع الميزان التجارى من خلال التوقف عن استيراد الغاز الذى تم فعلياً خلال العام الماضى، ثم البدء فى تصديره للدول المجاورة، وخاصة الاتحاد الأوروبى الذى يعد من أهم التكتلات المستهلكة للغاز المصرى.
كما تشجع هذه الوفرة على نمو صناعات البتروكيماويات، والصناعات كثيفة الطاقة، التى من المتوقع أن تمتلك مزايا تنافسية كبيرة فى السوق المصرية، وترتفع كفاءتها التصديرية بشكل مطرد خلال الفترة المقبلة.
وتسهم هذه التطورات فى خدمة رؤية مصر التى تستهدف أن تصبح الدولة مركزاً إقليمياً لتداول وتجارة البترول والغاز الطبيعى خلال الفترة المقبلة.
فتحوّل مصر لمركز إقليمى للطاقة يأتى بمثابة نقطة فى قلب مثلث، ضلعه الأول الموقع الاستراتيجى الذى تتمتع به الدولة، وامتلاكها لأهم ممر ملاحى فى العالم وهو قناة السويس، فضلاً عن توسُّطها بين أهم قارات العالم «أوروبا وأفريقيا وآسيا».
أما الضلع الثانى فيرتبط بالبنية التحتية القوية التى شيَّدتها الدولة، بجهود متميزة من القيادة السياسية والحكومة، حيث تمتلك مصر حالياً جميع المؤهلات التى تدعمها فى لعب دور ريادى ومؤثر فى تجارة الغاز والنفط فى الشرق الأوسط بالكامل.
الضلع الثالث يرتبط بالاكتشافات الغازية الكبرى التى حققتها مصر على مدار الفترة الماضية، والتى عززت بشكل كبير من إنتاج واحتياطيات مصر من الغاز الطبيعى ودعمتها للتوقف عن الاستيراد والبدء فى تصديره.
وفى تقديرى أن تحقيق هذا الهدف يرتبط بمجموعة من الإجراءات التى ينبغى التركيز عليها، وفى مقدمتها تشجيع القطاع الخاص المصرى للانخراط فى صناعة الغاز، وتدشينه لتحالفات مع شركات عالمية كبرى خلال الفترة المقبلة، حتى يصبح لدى مصر كيانات عالمية عملاقة فى هذا المجال.
كما ينبغى أن تعمل الدولة على دمج المناهج المتعلقة باستخراج وتكرير النفط والغاز فى المدارس، وتكوين تخصصات متعددة لها فى الجامعات، وعدم الاقتصار على قسم هندسة البترول الذى يوجد فى جامعة مصرية واحدة، وهى جامعة السويس!
وذلك حتى نتمكن من توفير العمالة المؤهلة لهذه الطفرة الإنتاجية والتصديرية المتوقعة فى القطاع، فلا بد أن تراعى وزارتا التربية والتعليم، والتعليم العالى التطورات المتلاحقة التى تحدث فى خريطة مصر الاستثمارية، وتبدآ فى خدمة أهداف التنمية وفقاً للمتغيرات الجديدة المتعلقة بالوقت الحالى، وليس بمصر «عام سبعين»!
العنصر الداعم أيضاً لهذا التوجه، هو التوسع فى الترويج لمصر كمركز إقليمى للطاقة، وجذب أكبر الشركات العالمية، وإعداد المؤتمرات والمعارض التى تسهم فى رسم وتنفيذ خريطة الاستثمار فى قطاعات الطاقة والنفط والغاز خلال الفترة المقبلة.