فى مدينة «لاهاج» أقصى شمال فرنسا.. يقع مجمع نووى فرنسى مهم، تقوم شركة «أورانو» للطاقة، بإدارة مجمع لاهاج النووى.
فى 26 يناير 2019، فوجئت الإدارة بقيام طائرات مسيّرة بإلقاء قنابل دخان فوق مفاعل نووى يقع ضمن المجمع. قامت إدارة المجمع النووى «أورانو لاهاج» على الفور بإبلاغ السلطات الفرنسية بوقوع الاعتداء.. وقالت إن ذلك لم يؤثر على سلامة المرافق.
كانت المفاجأة.. هى ما أعلنته منظمة السلام الأخضر «جرين بيس» أن عدداً من ناشطيها هم من قاموا بذلك الهجوم. وقالت المنظمة: «لقد تمكَّن ناشطونا من إلقاء قنابل دخان فوق مفاعل نووى شمال فرنسا، حيث سقطت القنابل التى جرى تحميلها على طائرات مسيّرة فوق مبنى حساس فى المجمع النووى أورانو لاهاج».. «لقد كان هدفنا من الحادث هو تحذير السلطات الفرنسية من وجود مخاطر حقيقية لشنّ الهجوم على هذا المجمع النووى المهم.. وأن المرافق النووية الفرنسية ليست محميّة ومؤمنة ضدّ الهجمات الخارجية بالقدر الكافى. وأنّ هناك إمكانية لشنّ هجمات حقيقيّة على هذا المجمع البالغ الحساسيّة».
ليست هذه هى الواقعة الوحيدة التى هدّدت فيها الطائرات المسيّرة مواقع استراتيجية.. فقد حلّقتْ بعضها فوق مبانٍ رئاسية ومنشآت عسكرية ومرافق شديدة الخطورة.. وفى عددٍ من المرات لم يكن هناك تعامل مناسب مع هذه التهديدات.
إن مجمل التهديدات السابقة كانت غير جادّة.. لكن السؤال: ماذا لو أصبحت جادّة؟.. وتمثِّل تجربة منظمة «جرين بيس» نموذجاً لذلك الاحتمال.. وماذا أيضاً لو لم يكن الهدف سياسياً أو اقتصادياً.. بل كان هدفاً نوويّاً؟
ثمّة أبحاث عديدة عن احتمالات استخدام الحركات الإرهابية لطائرات مسيّرة لأهداف على هذا المستوى العالى من الخطورة، كان الخوف سابقاً من استخدام سيارات مفخّخة أو عمليات انتحارية عبْر تجنيد موظفين نوويين يعملون فى المفاعلات.. ثم زاد الخوف من عمليات تهريب اليورانيوم واحتمالات التوصّل إلى صناعة قنابل نووية تعمل الجماعات الإرهابية على استخدامها، طبقاً لما تراه من أهداف.. ثم زاد الخوف مرة أخرى من استهداف الإرهاب لمنشآت نووية.. ليست عبْر سيارات مفخّخة قد لا يكون تأثيرها مؤكداً.. لكن عبر طائرات مسيّرة ربما استطاعت قصف المفاعل من أعلى، وتركيز الهجوم على المناطق الأكثر خطورة.. والنيْل منها.
وهكذا لم يعد الخطر على المفاعلات النووية كما كان طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية.. حصريّاً فى توجيه ضربة نووية.. بل أصبح بالإمكان توجيه ضربات مؤثرة من قِبل تنظيمات محدودة أو من قبل خلية تتشكل من حفنة أفراد. إن استراتيجيات الحماية النووية قد تم وضعها دوماً على أساس الحماية من دولة أو عدة دول معادية.. ولم يكن فى الحسبان طوال هذه السنوات أن يأتى الخطر من تنظيم أو عدة تنظيمات معادية.
إن المفاعلات النووية فى العالم يجرى حمايتها بالفعل من قبل وسائل متطورة للدفاع الجوى.. لكن هذه المنظومات باتت تواجه تحديات مضاعفة بسبب الحاجة إلى مواجهة تهديدات جديدة من حشود الطائرات المسيرة التى يمكنها أن تنطلق كالذباب فى أى وقت.. ومن كلّ اتجاه. لا تتوقف التحديات التى تهدّد الأمن العالمى عند أى مستوى.. إذْ يحمل التطور التاريخى جديداً باستمرار يضاعف من أعباء المواجهة والحلّ.
واليوم يتحدث العالم عن احتمالات أخطاء علمية أو مشكلات فنيّة قد تؤدى إلى انطلاق صواريخ نووية من قواعدها.. وهو ما يعنى احتمالات نشوب حرب نووية بطريق الخطأ!
كما يتحدّث العالم عن التقدم المذهل فى علم الرياضيات والتقدم البحثى الهائل فى آليات اختراق الأنظمة الإلكترونية للتكنولوجيا العسكرية المعادية.. وهو ما يعنى إمكانية التحكم فى الجوانب الفنية العسكرية عند العدوّ.. وتوجيه أو إعادة توجيه أسلحة الخصم حسبما يريد الطرف الآخر.
يتحدّث العالم أيضاً عن احتمالات نشوب حرب نووية بسبب سوء التقدير.. إذْ ربما تستخدم إحدى القوى صواريخ نووية لحمل رؤوس تقليدية.. لكن يجرى تقدير الرؤوس، باعتبارها رؤوساً نووية.. ومن ثم يمكن أن يجرى الردّ النووى على استخدام سلاح تقليدى لمجرد استخدامه صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية.. وهنا يجرى الحديث عمّا يسمى «الضربة العالمية الفورية» التى تنتمى إلى الاستراتيجية الأمريكية وتقضى بضرب العدو بأسلحة تقليدية تؤدى إلى نتائج واسعة التدمير. وهو ما ردّت عليه روسيا والصين.. بأنه لن يمكن تمييز ما إذا كان الصاروخ القادر على حمل أسلحة نووية يحمل فى هذه المرة أسلحة تقليدية.. وعلى ذلك سيجرى التعامل معه باعتباره سلاحاً نووياً، ومن ثم الرد عليه بسلاح نووى.
واليوم يتحدث العالم عن احتمالات حدوث خسائر أو كوارث نووية عن طريق استخدام طائرات مسيّرة.. تحمل قنابل قوية يمكنها تخريب المنشآت النووية. وإذا كان ذلك قد نجح بقنابل دخان فوق المفاعل الفرنسى قبل أيام، فإنه يمكن أن يتم بقنابل خطيرة ذات يوم.
الصورة ليست قاتمة تماماً -على صعوبتها- فكل تحدٍّ له ما يناسبه من الحماية، وكل خطر يجرى التنبه له يمكن مواجهته بتطوير آليات أكثر قوة.
لم تكن السياسة يوماً هى فنّ المستحيل.. لقد كانت وما زالت هى فن الممكن.. وإنقاذ العالم من العالم.. لا يزال بالإمكان.
يخلق التقدم العلمى باستمرار تحديات لا نهاية لها.. وينتج العلم أيضاً وسائل مواجهة لا حدود لها. يصنع العلم المشكلة، وهو أيضاً ما يصنع الحل.