الناشئة وأبناء هذا الجيل يكادون لا يعرفون الكاتب والمفكر السياسى (اليسارى) ميشيل كامل وكفاحه من أجل قناعاته الفكرية، وكيف فرّ إلى بيروت مع زوجته وابنه خوفاً من بطش الرئيس السادات الذى أمر بإلقاء القبض على كل اليساريين المصريين بسبب أزمته مع الاتحاد السوفيتى فى حينه.
وكرّس هذا المفكر جهده لإصدار «كراسات استراتيجية» وكتابات سياسية تدافع عن خطه اليسارى الذى ظل مخلصاً له حتى وفاته.
وفى عام 1992 عندما اشتدت الحرب الأهلية فى بيروت وتعرضت للاجتياح الإسرائيلى فرّ الرجل على زورق صغير باتجاه عمّان ومنها إلى باريس حيث واصل نضاله من أجل أفكاره التى استقر على نشرها فى جريدة «اليسار العربى» التى كان يرأس تحريرها، معتمداً على صديقه المصرى أديب ديمترى، لكن عندما شعر بدنو أجله أوصى زوجته بألا يُدفن فى أى أرض وإنما طلب منها أن تقوم بحرق جثمانه.. هكذا سيكون مرتاحاً لأنه لا يريد أن يعود جثمانه إلى مصر التى خرج منها هارباً ولا يريد أن يُدفن فى مقابر الصدقات الفرنسية.
وفى مساء إحدى الليالى اتصل بى الفنان جورج بهجورى الذى كان يعيش فى باريس وتربطنى به علاقة طيبة وأخبرنى أنه سينتظرنى غداً أسفل إحدى الشجرات العتيقة بجوار فرن الحرق الذى يتوسط حديقة جميلة وواسعة فى محطة مترو «بيرلاشيز».
وفى الموعد التقينا فأخبرنى أن ميشيل كامل قد مات وسوف نشهد حرق جثمانه بعد قليل، وكان الحزن بادياً عليه، وأخذ يحدثنى عن صلته بميشيل كامل ونضالاته التى لم تتوقف عبر سنوات.
ونادانا المنادى فذهبنا لننزل إلى أسفل ونقف مع الآخرين وكان من بينهم إذا لم تخنى الذاكرة ضياء رشوان وأنور مغيث، والتفتنا لنجد التابوت على سير حديدى.. وبعد لحظات كنا فيها وقوفاً وكأن على رؤوسنا الطير، تحرك السير حاملاً التابوت وفتح الفرن بابه لنجد النار فى حالة توهج وابتلعت التابوت من فورها ثم أُغلق الباب، وبعد دقيقة اتجهنا إلى صالة ملحقة بالفرن وجلسنا فيها وبعد خمس عشرة دقيقة جاء الحارس وفى يده زجاجة بها ذرات غبار حتى منتصفها وقال إن هذا هو ميشيل كامل وسلمه إلى زوجته التى أخذت الزجاجة واحتضنتها بعد أن غسلتها بدموعها.
وعدنا إلى بيوتنا ومشهد الحرق لم أنسه حتى الآن. رحم الله ميشيل كامل وعفا عنه وحشره مع الصديقين والأنقياء.