ثمة حربان تدور رحاهما فى المنطقة راهناً، إحداهما فى سوريا والأخرى فى اليمن، فضلاً عن نزاع مسلح مزمن بين غزة وإسرائيل عند جانبنا الشرقى، بجانب ما نعرفه جميعاً عن التهديد الإرهابى لتنظيم «داعش» وبعض الجماعات المتطرفة الأخرى، وهو تهديد ينجح أحياناً فى النَّيْل من أمننا وإيقاع خسائر ملموسة فى صفوفنا.
وفى الأفق، لا تغيب احتمالات وقوع حرب جديدة كبيرة فى المنطقة، خصوصاً عندما نتابع ما يصدر عن المتشددين والصقور لدى العدوين اللدودين الولايات المتحدة وإيران، وهى حرب، إن نشبت، ستكون واسعة ومتعددة، وستؤدى إلى عواقب يصعب جداً حسابها.
لقد قيل الكثير عن الحرب على مر العصور، واختلف القادة والفلاسفة فى توصيفها وتعيين سماتها المحددة، لكن ثمة حقيقة لم تكن قابلة للدحض أبداً، وهى الحقيقة التى تفيد أنه لا توجد دولة أو جماعة بشرية منظمة استطاعت أن تمضى فى الزمن من دون أن تخوض الحرب، وهو أمر يمكن إثباته عبر التاريخ.
إن وجود الحرب كحقيقة فى تاريخ المجموعات البشرية والدول لا يعنى تمجيدها أو تحبيذ تبنيها كخيار، كما أنه لا يبررها أو يغرى باللجوء إليها، لكنه يدفع إلى ضرورة تقصى أسبابها وفحص ماهيتها.
من بين أبرز المحاولات التى سعت إلى تحليل بيئة الحرب واستخلاص سماتها ودوافعها واستشراف مستقبلها، تلك المحاولة التى أقدم عليها عالم الحرب البروفيسور بريان فيرجسون، الذى خلص بعد بحوث جرت على مدى ثلاثة عقود عن الحرب، وشملت فحص مجتمعات بدائية وأخرى قديمة وحروب حديثة ومعاصرة، إلى عدد من الأفكار المهمة، وهى أفكار يمكن أن تساعدنا على فهم أسباب اندلاع الحروب فى منطقتنا، وتوقع مآلاتها أيضاً.
أولاً: الدوافع الأيديولوجية لشن الحرب ثانوية
على عكس ما يعتقد كثيرون، يبدو أن المصالح تأثيرها أكبر من الأيديولوجيا فى تطور النزاعات المسلحة، سواء كان هذا الأمر يخص التوتر المهيمن على العلاقات الأمريكية- الإيرانية، أو يتعلق بالحرب الدائرة فى سوريا، أو حتى النزاع المحتدم بين «حماس» وإسرائيل.
يعطينا تاريخ الحروب الكثير من الإثباتات لهذا الطرح، خصوصاً عندما يجرى الحديث عن التآلف والسلام والتحالف بين دولتين سبق أن انخرطتا فى حرب ضروس، علماً بأن هذا التحالف اللاحق للعداء لا يأتى عادة بمواكبة توافق أيديولوجى، بل يتحقق عبر تنحية الخلاف لإفساح المجال لحديث المصالح.
ثانياً: الحرب تستخدم القيم الثقافية السائدة وليس العكس
من النتائج التى خلصت إليها بحوث الحرب أن التباينات فى أعمال القتال الفعلية، فترات الحرب وفترات السلام، ومن يشن الهجوم ومن يتعرض له، يمكن تفهمها كنتيجة لفكرة أن من يتخذون قرارات الحرب يفعلون ذلك سعياً وراء تحقيق مصالح عملية. ويعكس هذا الأسلوب فى التعامل مع الحرب توجهاً سلوكياً يعنى بتحليل ما يفعله الناس أثناء الحروب، وليس ما يقولونه.
أثناء المناقشات الطويلة التى عادة ما تسبق الحرب، يعمد أنصار أى مسار عمل معين إلى طرح تصورهم لما يحقق المصلحة العامة فى صورة أخلاقية وقيمية، وهنا تظهر أفكار الواجب الدينى أو قيم الشجاعة والجبن أو ضرورة الثأر. ويجرى استغلال القيم المشتركة المترسخة فى الجماعة للتبرير وإقناع الآخرين. وبذلك يجرى تحويل الحاجات والرغبات إلى أمور صائبة وأخرى مرفوضة أخلاقياً.
ثالثاً: الحرب ليست قرار المتحاربين وحدهم
لا يمكن النظر إلى الحرب بين جماعتين أو دولتين على اعتبار أنها معركة محدودة ومنقطعة الصلة عن سياقها الإقليمى والدولى.
فى العصور القديمة، كانت الدول الكبرى محاطة بمناطق قبلية لا تخضع لسيطرة دولة بعينها. ومع سعى الدول لوجود كيانات سياسية حاكمة واضحة يمكنها التعامل معها، ظهرت وحدات قبلية أكثر تناغماً.
بدءاً من القرن الـ16، حمل الأوروبيون معهم إلى مناطق أخرى من العالم أمراضاً جديدة وتقنيات وسلعاً أحدثت تغييرات راديكالية فى المجتمعات المحلية. ومضت أوروبا فى تطبيق سياسات الدول الأقدم الساعية لتشجيع الحرب، مثل «فرق تسد». إلا أنها شجعت على الحرب كذلك بصورة جديدة، إذ إن طرحها سلعاً جديدة، مثل الحديد الصلب والأسلحة، خلق حوافز جديدة للقتال بين مجموعات محلية.
فى ثمانينات القرن الماضى، ظهر ما أطلق عليه «الحروب بالوكالة»، وهى حروب محلية مدعومة من جانب طرف أو أكثر من المتورطين فى «الحرب الباردة». بيد أنه فى واقع الأمر كانت هذه الحروب تجد ذرائع داخلية أيضاً لشنها، بحيث يمكن القول إن الدوافع الخارجية للحرب لم تكن أقل أبداً من الدوافع الداخلية والبينية المحركة لها.
رابعاً: الصراع يرسم صورة العدو
فى الحرب، ثمة ضرورة لوجود خط فاصل واضح بين «نحن» و«هم». تفترض الكثير من النظريات البيولوجية أن الحرب تشكل فى أحد أوجهها تعبيراً عن الميل الفطرى داخل الإنسان للتعلق بأفراد مجموعته وكراهية المجموعات الأخرى المغايرة. وتفترض كذلك أن الحروب تندلع بين مجموعتين متمايزتين سلفاً، وبينهما فقط.
الحقيقة أن الصراع نفسه هو من يتولى رسم ملامح المجموعات وتحديدها. وتتباين فترات الصراع ومعها تتباين صورة العدو، ذلك أن الحلفاء من الممكن أن يتحولوا سريعاً إلى أعداء، والعكس صحيح.
خامساً: الحرب استمرار لسياسات داخلية بوسائل أخرى
ينظر الناس للحرب باعتبارها مباراة يسعى فيها طرف إلى قتل طرف آخر، بينما يجرى تجاهل الاعتبارات السياسية الداخلية لدى الطرفين. فى الحقيقة الحرب بطبيعتها انعكاس لسياسات داخلية بقدر ما تعكس سياسات خارجية.
بعض الحروب تتسم بوحدة صف شديدة داخل أحد الطرفين أو كليهما، لكن هذا أمر نادر. أما الغالب فى الحروب أن الوحدات السياسية الأساسية بكل طرف تظهر داخلها خلافات وانقسامات وتتسم عناصرها بقدرات متباينة على التأثير فى مسار الأحداث، الأمر الذى ينطبق حتى على أكثر المجتمعات بساطة. والحرب ليست نتاجاً لوجهات نظر ومصالح مختلفة فيما يخص الشئون الخارجية فحسب، وإنما أيضاً نتيجة لصراعات داخلية.
إن التمعن فى هذه الاستخلاصات، ربما يوضح لنا الكثير مما يحدث حولنا خلال الحروب وتمهيداً لها، وربما يعمق ألمنا أيضاً إزاء ملايين البشر الذين قضوا فى حروب لم تخلُ منها حقبة من حقب التاريخ.