من المؤلم أن تكون الأحزاب والقوى السياسية المنظمة أو شبه المنظمة فى وادٍ وحركة الشارع والسياسة ومشاعر المواطنين فى وادٍ آخر.
ومن المؤلم أيضاً أن تتفاعل قوى سياسية وحزبية كثيرة مع الواقع السياسى بأسلوب رد الفعل ودون تخطيط مسبق. وفى حال كهذا تصبح الأحزاب مجرد فكرة أو افتراض أو وهم فى عقول أصحابها، ويصبح المواطن وحيداً فى مواجهة تحديات الحياة.
الأحزاب تشكلت لتعبر عن مصالح عريضة لفئات اجتماعية وتسعى من خلال المنافسة مع الأحزاب الأخرى إلى نيل الغالبية البرلمانية، ومن ثم تنفذ برنامجها السياسى والاقتصادى الذى انتخبت على أساسه. وهكذا تصبح المنافسة والوصول إلى البرلمان هو التحدى الأكبر لأى حزب سياسى، وبقدر الانتشار فى المجتمع والقدرة على التعبير عن مصالح عريضة بقدر ما يحصل الحزب على عدد من مقاعد البرلمان، وبقدر هذه المقاعد يتحدد موقع الحزب إما فى الحكومة أو فى المعارضة. وإجمالاً فإن نشاط الحزب وتغلغله فى ثنايا المجتمع وجذب الأعضاء وبناء الكوادر الحزبية الفاعلة هو الكفيل بالبقاء والاستمرار والمنافسة.
أما أن يصبح الهمّ الأكبر للحزب وقادته هو مجرد الثرثرة السياسية وإطلاق الشعارات البراقة والتعامل مع تعقيدات الحياة السياسية بمنطق الصالونات والندوات واللقاءات التليفزيونية، فتكون النتيجة هى الخسارة المؤكدة، أو على الأقل البقاء الهامشى والصورى فاقد التأثير. وفى مصر الآن الكثير من الأحزاب من هذه النوعية البائسة، ولا هَمّ لمؤسسيها أو رموزها سوى التصريحات الفاقعة والأنشطة الرمزية، وبالتالى فلا يوجد حزب ولا يحزنون.
لست من المتشائمين ودائماً ما أنظر إلى نصف الكوب الملآن، غير أن حقائق الأمور فى حياتنا الحزبية لا تدعو إلى التفاؤل. وفى بعض الحوار الدائر حول قانون الانتخابات البرلمانية المنتظر وطبيعة النظام الانتخابى، نجد رموزا حزبية تطالب بنظام القائمة أو على الأقل بنظام مختلط فيه نسبة 50% للقائمة حتى تستطيع بعض الأحزاب أن تحقق لنفسها عدداً معقولاً من المقاعد النيابية. والحقيقة المرة هنا أن الأحزاب قديمها وجديدها حين تخشى من السقوط أمام أفراد، فإنها تقر بضعف موقفها وقلة حيلتها وفقدان الشعبية. وصحيح أن نظام القائمة قد يُعطى قبلة الحياة للأحزاب، لكن الأكثر صحة هو أن تكون الأحزاب صاحبة شعبية حقيقية وعندها فلن تخشى مواجهة أفراد أياً كانوا.
هذه المقدمة الطويلة عن بؤس حياتنا الحزبية تعد ضرورية حين نقترب من تجربة جبهة الإنقاذ التى تأسست فى 19 نوفمبر 2012 وشارك فيها عدد من الرموز السياسية والحزبية من اتجاهات شتى من أجل مواجهة خطط الإخوان لمصادرة أعمال الجمعية التأسيسية الأولى لوضع الدستور، ثم مدت حركتها السياسية بعد الإعلان الدستورى الشمولى الذى أصدره الرئيس المعزول لكى تصبح مواجهة حكم الإخوان والحفاظ على الدولة المصرية دولة مدنية لكل مواطنيها. وكان للجبهة دور مهم فى التعبئة ضد دستور الإخوان رغم أن نسبة الرافضين ممن شاركوا فى استفتاء ديسمبر 2012 كانت فقط 36%، ولكن الجبهة أصرت على الاستمرار فى التعبئة والحشد وتنظيم المظاهرات والفعاليات المختلفة ضد الإخوان كجماعة وحكومتها ورئيسها معاً. ويشهد التاريخ أن الجبهة كان لها دور رئيسى فى إسقاط حكم الإخوان وفى التمهيد للموجة الثانية من الثورة فى 30 يونيو 2013، جنباً إلى جنب حركة تمرد التى ظهرت للوجود فى أبريل من العام نفسه، وقادت حركة مجتمعية شاملة انتهت بسقوط «مرسى» وأعوانه.
كثير ممن شاركوا فى الجبهة، وما زالوا أعضاء فيها، يرون أن دور الجبهة ما زال مطلوباً، لكنهم لا يحددون طبيعة هذا الدور، وهنا يأتى التلاعب بالألفاظ، مثل البقاء كتحالف سياسى من أجل استكمال تحقيق أهداف ثورة 25 يناير والحيلولة دون الانحراف عن هذه الأهداف. وفى المواجهة يوجد طرح آخر يقوده حزب الوفد والتحالف الشعبى الاشتراكى، ويصر على أن دور الجبهة أصبح منتهياً بعد إسقاط حكم الإخوان وأن استمرار الجبهة لبعض الوقت حتى تمرير الدستور الجديد منتصف يناير الماضى لا يبرر إطلاقاً استمرار الجبهة بعد ذلك، فطبيعة المهام المقبلة، سواء الترتيب للانتخابات البرلمانية أو حتى تأييد مرشح رئاسى بعينه لا تضيف إلى عمل الأحزاب المشاركة فى الجبهة، بل تعوق استعداد كل منهم للمشاركة فى هذه الاستحقاقات. وأن أفضل ما يمكن عمله هو أن يدخل كل حزب فى تحالف انتخابى مع من يريد من الأحزاب الأخرى، سواء كانت مشاركة فى جبهة الإنقاذ أو من خارجها. وهؤلاء هم الواقعيون الذين يرون أن الممارسة الحزبية الحقيقية تتطلب الشراكات المحدّدة مع أطراف بعينهم لمواجهة استحقاق بعينه، لا سيما الاستحقاق البرلمانى.
أما المثاليون، أو بالأحرى الحالمون، فيرون أن أحزب الجبهة يمكنها أن تستمر فى تحالف سياسى، وفى الآن نفسه تتنافس انتخابياً، وبعد ذلك قد تشكل حكومة ائتلافية. وحسب معلوماتى المحدودة فإنه لا توجد تجربة سياسية شرقاً أو غرباً يُعتد بها تقول إن عشرين حزباً مثلاً يمكنها أن تشكل حكومة ائتلافية. والمسألة ببساطة أن تشكيل الحكومة الائتلافية يتطلب بدوره قدراً ولو محدوداً من التجانس بين ثلاثة إلى خمسة أحزاب على الأكثر. وفى كل الأحوال لا بد أن يكون هناك حزب قائد نال العدد الأكبر من المقاعد البرلمانية، ومعه عدد محدود من الأحزاب التى تحصل على الفتات الحكومى مقابل توفير مظلة حماية برلمانية للحكومة التى يقودها الحزب الأكبر عدداً. ولو تصوّرنا جدلاً أن أحزاب جبهة الإنقاذ الذين قد يفوزون بمقاعد نيابية تتيح لهم تشكيل حكومة ائتلافية، فكيف سيكون برنامج الحكومة المنتظرة والمشاركون فى تشكيلها يتوزعون على تيارات سياسية مختلفة ليبرالية ويسارية واشتراكية وقومية وهكذا.
ووفقاً لدهاليز جبهة الإنقاذ فإن الصراع الحقيقى يكمن فى موقف الجبهة المحتمل تجاه تأييد مرشح رئاسى. وليس بخافٍ على أن التيار الشعبى يرى فى حمدين صباحى مرشحاً للثورة، وعلى جبهة الإنقاذ أن تقف وراءه، بينما تجمع الغالبية على أن المشير السيسى إن ترشح فهو الأجدر على نيل تأييد الجبهة. والمسألة هنا ليست مجرد تفضيلات شخصية، وإنما تتعلق برؤية واقعية تستهدف مصلحة الوطن العليا مع مراعاة اتجاهات الرأى العام الداعمة للمشير السيسى والراغبة فى أن تراه رئيساً يحمى ويقود.