القراءة المتعمقة فى نتائج التصويت على الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذى جرى مؤخراً، تكشف أن الواقع السياسى فى مصر ما زال حياً نابضاً بالحياة، رغم كافة التوصيفات التى كانت تشخص الممارسة السياسية لدينا بأنها ساكنة أو خامدة. وبخلاف كثيرين لفتتهم نسبة عدد الموافقين على التعديلات، فقد تحولت حواسى وقدرات التركيز لدىّ إلى رقمين رأيت أنهما لا ينبغى إهمالهما أو المرور عليهما مرور الكرام.. هذان الرقمان هما نسبة الذين قالوا «لا» للتعديلات الدستورية، ونسبة الأصوات الباطلة.
فقد أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات أن عدد غير الموافقين اقترب من ثلاثة ملايين مواطن، بينما بلغ عدد الأصوات الباطلة نحو مليون مواطن، بنسبة تقترب من ثلاثة بالمائة من عدد المصوتين. وبالطبع يبدو لافتاً أيضاً تجاوز نسبة الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع حاجز الأربعين بالمائة بنحو أربعة فى المائة من إجمالى عدد الناخبين أو عدد الذين لهم حق الانتخاب.
اللافت أيضاً أن المقارنة العددية لنتائج الاستفتاء الأخير، مقارنة بنتائج الاستفتاءات التى جرت خلال السنوات القليلة الماضية، أمر يجب التمعن فيه واستخلاص العبر منه. أنوه، وقبل أن أمضى فى توضيح ما أريد، إلى أننى لا أرى الممارسة السياسية الكاملة أو الصحية قد باتت واقعاً إيجابياً من كافة النواحى بما جرى خلال الاستفتاء على تعديلات الدستور، وأنوه أيضاً إلى أننى أظن أن نتائج الاستفتاء الأخير كشفت عن ضرورة وأهمية إدراك أن الممارسة السياسية لا تتفاعل أو تنتعش إلا بوجود المؤيد والمعارض، أقصد التأييد والمعارضة المجردة من أى دوافع شخصية أو خاصة، فالتباين فى الآراء أمر طبيعى وفطرى وصحى لتحصين المجتمع، أى مجتمع، ضد أمراض وفطريات وعوارض حتماً ستكون تأثيراتها ضارة إذا لم يحصن هذا المجتمع بمزيد من الانفتاح وإتاحة الفرصة كاملة للرأى المخالف لطرح ما يرى من آراء. وبالطبع أستثنى من الشمول بالسماحة السياسية، مروجى الأفكار الهدامة والمنحازين الداعمين للعنف وممارساته المختلفة.
ما يقرب من أربعة ملايين مواطن شكلوا، دونما ترتيب أو تنظيم، كياناً غير محدد الملامح لأصحاب الرأى الآخر فى مواجهة الأغلبية المؤيدة، بافتراض أن أصحاب الأصوات الباطلة أبطلوا أصواتهم احتجاجاً أو رفضاً.
ورغم أن تجمُّع القوى المدنية، كما أطلقوا على أنفسهم، ينسبون لأنفسهم فضل دفع أولئك الرافضين إلى الخروج للتعبير عن رفضهم للتعديلات، فإننى -ورغم عدم قناعتى بما يقولون- أظن أن الأغلبية والسلطة السياسية مطالبة بأن تتمهل وتدرس وترتب -وبخطى متسارعة- خطة خارطة طريق، تأخر التفكير فيها والمضىّ فى تنفيذها، لإتاحة الحيوية للحياة السياسية بما سوف يعود بالنفع العام على المجتمع.
أكرر أن السلطة السياسية هى المعنية الآن، بالقدر الأكبر من المسئولية، بالقفز للأمام عدة خطوات بهدف دعم الآراء المعارضة، وإتاحة الفرصة كاملة لها، بشتى السبل، لممارسة حقها فى التعبير عما تراه من آراء وتوجهات.
أعلم أن لدينا أكثر من مائة حزب، لا أظن أن أحداً يستطيع حصرها وذكر أسمائها أو التمييز بين برامجها، ما يصعّب من مهمة تحقيق الدفعة المناسبة لكل هذه الكيانات، ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله. وكى أكون محدداً، فإننى أتمنى على السلطة السياسية أن تعد، ومنذ الآن، قوائم بأسماء شخصيات لديها مقومات ومواهب سياسية لافتة، لتعيينهم فى مجلس الشيوخ المزمع تكوينه تنفيذاً للتعديلات الدستورية المستحدثة، أو اختيارهم لشغل بعض مقاعد المعينين فى البرلمان، والتى كان العدد الأكبر منها فى السابق يخصص للمرأة التى باتت لها نسبة الربع فى عدد المقاعد.
أتمنى على السلطة السياسية أن تدع الإعلام الذى بات فى غالبيته محسوباً عليها، لفتح الآفاق أمام مختلف الآراء المعارضة لطرح رؤاها وأفكارها.
أظن أن نسبة الذين قالوا «لا» للتعديلات الدستورية طاقة إيجابية يجب أن ننطلق منها لممارسة سياسية أفضل.