مصر دولة مركزية، قد يعيش الموهوب فيها سنوات عمره كلها لا يعرفه أحد إلا إذا جاء إلى العاصمة.. ويُقال إن القاهرة لم تأتِ إلى أحد أبداً لا مصرى ولا أجنبى إلا لشخصين: السيدة فيروز اللبنانية، التى لم تستقر أبداً فى القاهرة، والساخر جلال عامر، الذى لم يغادر الإسكندرية.
الكاتب المسرحى الدمياطى الراحل «محمد الشربينى»، أحد هؤلاء الذين التهمت الأقاليم إبداعاتهم دون أن يشع نورهم فى المركز، فيضىء الوطن كله.
«محمد الشربينى» لم ينل حظاً وافراً من الشهرة القومية، لكنه كان من شيوخ مسرح الثقافة الجماهيرية، وكان من أهم كُتاب الأقاليم، ممن رفضوا نداء ندّاهة القاهرة وتغوّلها على الأقاليم، فعاش ومات مُقدراً من عاشقى المسرح فى محافظات مصر، لكن دون أن يُعرف على نطاق واسع، اختار أن يقدم رسالة فنية يستفيد بها الكثيرون، بدلاً من أن يستقر فى المركز ويستفيد هو.. الرجل بكل تأكيد هو أحد رموز مسرح الأقاليم، وله إسهامات بحثية وتاريخية لهذا المسرح.
«الشربينى» خريج كلية الآداب، قسم الاجتماع، وهو مؤسس مجلة «آفاق المسرح»، وأدار تحرير كتاب الثقافة الجديدة، وترأس تحرير سلسلة مسرحيات مصرية، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية منتصف التسعينيات، ودرع التفوق من الهيئة العامة لقصور الثقافة مطلع الألفية الجديدة.
من مسرحيات «محمد الشربينى» التى تلفت النظر، مسرحية: «مدد يا شيخ على»، والمقصود هو الشيخ «على عبدالرازق».. ويقول «الشربينى» فى مقدمة مسرحيته إن: (كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، يُعد بمثابه زلزال حرك الأرض بما عليها فى ذلك الوقت، لأنه دفاعٌ عن تحرير العقل وإطلاقه من عقال الجهل والخضوع والتسليم بما تركه الأقدمون»).
بحسب المسرحية، التى تستقى أحداثها من الواقع، حاول أعضاء هيئة كبار العلماء ممن حاكموا الشيخ «على عبدالرازق» أن يلووا عنق الحقيقة إرضاءً للملك فؤاد الذى يسعى إلى أخذ زمام الخلافة بعدما تم إلغاؤها فى تركيا، ومن هذا المنطلق صموا آذانهم عن أية محاولات للتفكير الموضوعى.. وكأنه يقول ما أشبه الليلة بالبارحة، وأن ما نحصده اليوم قد تمت زراعته بالأمس.
هيئة المحلفين بالمسرحية تتكون من شيخ الأزهر مع أربعة من الشيوخ، وهم بالكامل شخصيات نمطية بلا أية ملامح، ولا يجمعهم أى شىء إلا الملمح الوحيد الذى يظهرونه، وهو متمثل فى العداء الشديد لأفكار الشيخ «على عبدالرازق»، وكذلك فى عدم الموضوعية فى الحديث ومصادرة الآراء والإتيان بالأحكام العامة والذاتية وعدم التعمّق فى الأمور والاكتفاء بقشورها.. أما الشيخ على عبدالرازق نفسه، فعلى النقيض، تتجلى سمات شخصيته من منطلقات عكسية مثل: الموضوعية، والعمق، وحب البحث العلمى، ومقارعة الحجة بأختها، والقدرة على تفنيد القضايا بطريقة مدققة.
مسرحية «مدد يا شيخ على» مسرحية متعددة المشاهد والأزمنة، تبدأ أحداثها منتصف عشرينيات القرن الماضى، حيث محاكمة الشيخ على، ثم تنتقل إلى مستوى زمانى ومكانى آخر، حيث القاهرة فى منتصف السبعينيات حين أطلت موجات الإرهاب بوجهها القبيح، ويستمر التنقل بين المستويين ليتجادل الماضى مع الحاضر.. أدعوكم لإعادة قراءة أعمال الراحل «محمد الشربينى»، عرّاب مسرح الثقافة الجماهيرية.