حالة من الرعب انتابت مستثمرى شركة «أبل» عملاق الصناعات الإلكترونية حول العالم، نتيجة لإعلان الشركة عن رحيل مصممها العبقرى جونى إيف فى وقت لاحق من هذا العام.
هذا الرجل الذى ربما لم يسمع عنه الملايين من مستخدمى أجهزة ومنتجات شركة «أبل»، وغيرهم من المطّلعين على سوق التكنولوجيا، كان بمثابة حجر الزاوية فى نجاح هذه الشركة العملاقة التى أصبحت أول شركة فى العالم تتخطى قيمتها السوقية تريليون دولار، وتعادل إيراداتها حوالى 80% من الدخل القومى المصرى.
فلو سألت أى شخص من مستخدمى منتجات «أبل»: «لماذا ترتبط بمنتجات هذه الشركة؟» ستجد «روعة التصميم، والإعجاب به» حاضراً فى كل الإجابات، وهو ما يعنى أن كل مستخدم لمنتجات أبل شعر بلمسة هذا المصمم الفنان.
رحيل «جونى إيف» عن «أبل» لا يعنى أن تصميمات الشركة ستنحدر للأسفل خلال الفترة المقبلة، ولكن بكل تأكيد أن هذه الشركة العملاقة لديها فريق متكامل من المصممين الذين تعاملوا وتعلّموا من هذا الفنان قبل رحيله، وهم قادرون على استكمال المسيرة المتألقة فى سماء التكنولوجيا.
ولكن هذا الخبر، الذى تناولته كل صحف ومواقع العالم تقريباً، يجعلنا نقف عند مسألة فى غاية الأهمية، وهى «قيمة الفنان»!
لا أقصد أن الفنان هو الرسام أو المصمم أو الممثل أو المغنى فقط، ولكنى أقصد كل من هو متميز فى عمله، ومتجدد ومبدع فيه على نحو يجعل الجميع مرتبطاً به، ويجعل وجوده فى حد ذاته أحد أهم عناصر المنافسة ومراكز القوة.
ستيف جوبز، مؤسس شركة «أبل» الذى رحل عن عالمنا عام 2011، هو من أحضر للشركة جونى إيف، عام 1992، ومع بداية نجاح الشركة وانتشار منتجاتها على نطاق واسع من العالم، سأل الصحفيون «جوبز» عن أسباب نجاحه، فقال: «دائماً كنت أبحث عن الفنان والمبدع فى كل مجال، وأحضره، حتى شكلت كتيبة لا يمكن لها أن تنهزم!».
ستيف جوبز، كان يبحث عن الفنان، فنجح فى بناء «أبل»، التى أعتبرُها أنجح المشروعات الاستثمارية على مدار التاريخ البشرى.. وهذا تؤكده الأرقام.
وعزز «جوبز» من مفهوم الانتماء لدى المبدعين الذين أحضرهم لشركته، ونسب إليهم كل إنجازاتهم، بعيداً عن مفهوم «الرجل الواحد» الذى يظهر دائماً ليحصد أمجاد الجميع، وينسبها لنفسه، الأمر الذى مكّن من استمرار نجاح «أبل» بالاعتماد على نفس الكفاءات تقريباً بعد 8 سنوات من وفاة ستيف جوبز، لأنه كوّن نظاماً محكماً للإدارة وتوزيع الصلاحيات والمسئوليات قبل أن يبحث عن الأشخاص.
ونحن فى مصر أيضاً بحاجة مُلحّة لـ«البحث عن الفنان»!
الاقتصاد المصرى اليوم يمر بمرحلة مهمة للغاية، حققنا إنجازات كبيرة، ونجاحاً اعترف به العالم، ولكن وفقاً للقاعدة التى يعلمها الجميع، المحافظة على النجاح أصعب كثيراً من الوصول إليه.
نحن اليوم بحاجة إلى فريق متكامل من المبدعين والفنانين، يناسبون أهداف هذه المرحلة، نسكّنهم فى مختلف المجالات ذات التأثير المباشر على أهداف الدولة وخططها المستقبلية.
هؤلاء المبدعون لا بد أن يتسموا بشراسة أكبر فى سوق المنافسة، وذكاء أكثر فى عالم التكنولوجيا، وقدرة أكبر على مواكبة التطور فى عالم يتغير كل لحظة.
هؤلاء المبدعون لا بد أن نبحث عنهم باستمرار اليوم، فالأهداف المقبلة، أصعب كثيراً من تلك التى حققناها فى الماضى، نحتاج للمحافظة على كل الكفاءات الحالية ومساندتها بكفاءات جديدة.
قد يشير البعض إلى أن هناك من أبناء مصر فى الخارج من رفض العمل مع الدولة خلال السنوات السابقة، أياً كان الموقع أو المنصب المعروض عليهم.
ولكن لا بد أن نعلم أن «مصر اليوم» تختلف كثيراً عن «مصر منذ عدة سنوات»، فلو كانت مقومات النجاح غائبة فى الماضى لذا تخوفت هذه الكفاءات من العمل فى مصر، فتلك المقومات متوفرة اليوم ويراها الجميع.
فالعالم بأسره غيّر وجهة نظره تجاه مصر خلال العامين الماضيين بالتحديد.. فهذه شركة «جوجل» العالمية تعلن عودتها للسوق المصرية بعد أن غادرتها منذ 4 سنوات.. وتلك هى عملاق السيارات الألمانى شركة «مرسيدس» التى وقعت على اتفاقية جديدة لدخول السوق المصرية بعد أن خرجت منها فى 2013، فما بالكم بأبناء مصر فى الخارج الذين يتمنون لها الخير دائماً ولا أحد يستطيع التشكيك فى نواياهم تجاه وطنهم أو المزايدة عليها.
ولكن الأمر يتطلب تقديراً أكبر من الدولة للكفاءات والمبدعين، ووضع حزمة حوافز متكاملة لجذبهم تشمل تقديراً مادياً مناسباً، وتقديراً معنوياً مناسباً أيضاً.
وتوفير بيئة عمل متطورة ومتكاملة لعملهم، لأن المبدعين دائماً لا يجيدون الحروب النفسية، والدخول فى المهاترات، وإنما يجيدون العمل وبناء شىء أفضل يُنسب لهم، وينهض بأوطانهم أو الكيانات التى يعملون بها.
فهيا جميعاً نبحث عن الفنان.. ونضع خطة جادة لإقناعه بالقدوم.. الوقت مناسب جداً!