ودعنا شهر الخيرات والمغفرة والعتق من النار، منذ فترة، وبقى السؤال: ماذا بعد رمضان؟ وللإجابة عنه يجب أن نعود إلى ما كان عليه حال الناس فى رمضان، وهو أمر لن يخرج عن ثلاثة أقسام -كما قال علماء الدين- قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات، فالظالم لنفسه المرتكب للمعاصى المكتفى بامتناعه عن الطعام والشراب، لكنه لم يمتنع عن الخوض فى أعراض الناس والرشوة وشهادة الزور والسباب وسوء الأخلاق وغير ذلك من الخصال والأفعال المحرمة، فكان جزاؤه الجوع والعطش، والمقتصدون هم الذين صاموا عن كل ما حرم الله وأدوا الفريضة كما يجب فى حدود الطاقة، أما السابقون بالخيرات فهم الأفضل لأنهم سارعوا إليها وجاهدوا واجتهدوا وأخلصوا ونهوا أنفسهم عما يغضب الله وراعوا الله فى أعمالهم وعباداتهم فأدوها أحسن أدائها، وقرأوا القرآن وتدبروا معانيه وتجاوز حناجرهم إلى قلوبهم فبلغوا مرتبة المحسنين؛ ونعود إلى سؤالنا: ماذا بعد رمضان؟، هل حصنا أنفسنا لنكون قادرين على كبح جماح شهواتنا بعده؟ هل شحنا بطاريات الإيمان لتقوينا على الثبات على الطاعات فى بقية الشهور، أم أن عزيمتنا ستخور ونعود إلى سيرتنا الأولى وتشغلنا الحياة بمتعها ومشكلاتها ونغفل عن واجباتنا، إن الأمر جد خطير، لأن العاقل من أخذ من يومه لغده، ومن شبابه لهرمه ومن دنياه لآخرته، لذا وجب علينا أن نستثمر ما تعودنا فيه من فضائل وأعمال صالحة، لنزين حياتنا بالإيمان، ونبتعد عن الآفات التى تشغلنا وتحيد بنا عن الطريق الصواب الذى يبلغنا رضا الله الذى هو الغاية، فالاستمرار فى الطاعات بعد رمضان من علامات القبول فيه.
وفى شهر الرحمة والمغفرة كان حرياً بالتليفزيون المصرى أن يقدم لنا عملاً دينياً يلبى رغبة المشاهدين الذين اعتادوا على متابعة الأعمال الدرامية الدينية فى الشهر الكريم، لأنهم إن لم يتابعوها فى رمضان فمتى يتابعونها؟ هذه الأعمال التى كانت تعلى من قدرة التعبير باللغة العربية الفصحى، فتسهم فى تعلق الناس بلغة أهل الجنة التى تعانى إهمالاً ما بعده إهمال فى أيامنا هذه، حتى إن كثيراً من الناس لا يجيدون نطقها ولا تدبر معانيها مع أنها لغة القرآن، ما ينذر بضياع هويتنا الثقافية العربية، وكذلك كان يتعين عليه إفراد مساحات أكثر فى البرامج لتناول القضايا الشائكة والخلافية بين فرق المسلمين فى هذا العصر، التى تستحق التذكير بها الآن بعد أن كثرت الفرق، وكل فرقة لها قنواتها الفضائية التى تتبنى نشر أفكارها، وعمت الفرقة جماعة المسلمين وباتت كل فرقة ترى أنها القيمة على الدين، فكثر التكفير بينهم.
كان على الإعلام المصرى أن يكون مشاركاً على الأقل فى شهر رمضان فى تحديث الخطاب الدينى بإفراد مساحات أكثر وأوقات مناسبة لإظهار العلماء المجددين فى علوم الدين والدنيا، فأين الإعلام من إظهار علماء كالدكتور مصطفى محمود الذى ربط العلوم الدنيوية والاكتشافات العلمية بالإيمان بالله فى برنامجه الشهير العلم والإيمان، وكالإمام المجدد العالم العلامة الشيخ محمد متولى الشعراوى، فالكثيرون عاشوا عمراً مديداً على تفسيره للقرآن الكريم، وتربوا على اجتهاداته فى توضيح معانى القرآن الكريم وبراعته فى اللغة العربية فى تفسير آيات الله عز وجل، وارتبطوا به منذ عام 1977وبدء رحلته فى التفسير وظلوا يتابعونه فى جولاته فى المحافظات لتسجيل الحلقات التليفزيونية، حتى رحيله عن دنيانا عام 1998، وطوال هذه الرحلة ظل الشيخ الشعراوى أحد مظاهر شهر رمضان الكريم، ولقد كان الشيخ الشعراوى -رحمه الله- يعطى طاقة إيمانية وروحية كبيرة لمتابعيه على التليفزيون المصرى قبل ظهور الفضائيات، ومستمعيه فى إذاعة القرآن الكريم التى كانت تذيعها ويلتف أفراد الأسرة لسماعها بسبب شعورهم بعلمه كأحد علماء القرن فى عصره وحبه وإخلاصه لتفسير كتاب الله عز وجل، وقد ساهم صفاء نفس الشيخ فى زيادة وعى متابعيه وإشعارهم بسماحة وعظمة الدين الإسلامى الحنيف ودحض شبهات المغرضين الخاطئة حوله بالرد المنطقى العقلانى عليها، وقد نجح الشيخ بفطنته فى ربط كثير من جوانب التفسير ببعض الأحداث اليومية التى يعيشها الإنسان ليبرهن على أن القرآن الكريم متجدد فى تفسيره فى كل زمان.
ونحن أحوج فى الوقت الراهن للمجددين من العلماء والدعاة أمثال الشيح الشعراوى، لترسيخ المعانى الصادقة للدين فى نفوس أولادنا وشبابنا لنغلق أبواب المتاجرين بالدين وبالفتاوى غير الصحيحة على الإنترنت والقنوات الفضائية، إذ إنهم يحاربون الدين بجهلهم وينفرون الناس منه بتشددهم، وكذا لنوقف انتشار سم الجماعات المتطرفة والإرهابية التى تفسر الدين وأحكامه بطريقة خاطئة، مستغلة رغبة الناس فى التعرف على أمور دينهم، وتسعى بطرق خبيثة لنشر الفكر المتطرف والعنف لاستغلال العقول لأسباب سياسية وليست دينية لمحاربة الدول واستقرارها، ومن ثم فقد بات لزاماً على التليفزيون المصرى أن يكثر من عرض البرامج والأعمال الفنية الدينية فى رمضان وغير رمضان ليتعلم الناس، وبخاصة محدودو الثقافة والتعليم أو مثقفو الثقافة الدنيوية فقط أمور دينهم ودنياهم، فالدراما والفنون أقصر الطرق لتحقيق ذلك.