يبدو لى، وللمتأمل فيما أظن، فى أحوال الإنسان، أن الأنانية قاسم مشترك، وإن بنسب متفاوتة، بين أفراد الناس، وأنهم فيما عدا القلة النادرة من الأنبياء والقديسين والأفذاذ، لم يراجعوا أضرار هذه الأنانية والحفاوة بتمجيد الذات، ولم يلتفت الإنسان لغروره بذاته إلى أى شخص غيره موجود أو وجد وزال من الوجود.
وتلك فيما أظن بلية عظيمة يصعب معها فى زماننا وجود الأمانة والإخلاص والوفاء للغير، أو المحافظة على ما كان عليه أصحاب الرسالات والأفذاذ من شمائل تخفف من غلو هذه الأنانية، وتعود بالفرد إلى الخصال التى كانت محل إجلال لدى بعض الناس إلى أن فارقوا دنياهم.
أينما يلتفت المتأمل، يرى أن الأنانية داءٌ عميق أصاب العالم والجاهل، والغنى والفقير، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والمتدين وغير المتدين، ولم يعد لدى كثيرين إيمان حقيقى ثابت بوجوب مراجعة أضرار هذا الداء، على المجتمع الإنسانى وعلى غيرهم وعلى أنفسهم!
صارت الأنانية، أساساً بلا استثناء، يحملها الآدمى ويصونها بلا مواربة من المولد إلى الممات!
لا يغير من هذا الوضع المر، المسايرة والتعاون فيما هو ممكن التعاون أو التساند فيه، فحساب الأنانية للذات ومَن فى حكمها حاضرٌ على الدوام. قد يتوارى، ولكنه قائم سرعان ما ينكشف عنه الغطاء إذا جَدَّ ما يثيره.
أقدار الأحياء مطوية قبل أن تظهر للخارج ويعرفها حاملها عندئذ، وقد لا يعرفها. وهذه المعرفة غير يقينية، إذ الحى كائناً ما يكون لا يدرى بيقين معانى حياته، ولا مقدار سيطرته على هذه المعانى التى لم يبتكرها أو يصنعها أو يقلدها من غيره. فالكون أوسع وأعظم من كل تصوراتنا، وسيبقى كذلك دائماً رغم تزايد معرفتنا به عمقاً وعقلاً يوماً بعد يوم، لأن اتساعنا مهما اجتهدنا يقصر عن إدراك اتساع وعظمة الكون، وتكبله الشهوات والأهواء والأطماع، والرغبة الفردية المادية الوقتية التى يسعى بها كل آدمى وراء اقتناص المكاسب التى يسعى للوصول إليها.
ولا يصل إلى هذا المراد إلاَّ الأقلّون، وتفشل الكثرة الكاثرة برغم دوام تزايد اتساع المدن والأبنية والموانئ والأسواق والأسلحة، بما فى ذلك من مبالغات لا تلبى حاجة الإنسان الرزين، فضلاً عن المنافسات المطردة التى ينافس بعضها البعض بغير انقطاع، فى الإدارات وفى الآلات غير المسبوقة، وفى غرائب النقل البرى والبحرى والجوى التى تتزايد باستمرار، يقابلها نقص القوت وتفاقم الفاقة لدى الكثرة الكثيرة من عموم الناس.
لا يغير هذا الواقع المرير، أن الأغلبية تذعن وتستكين لحاجتها إلى المعاش.
على أن الضجر والقلق المتولدين عن ذلك، كانا فى الماضى أشد وأنكى.
ذلك أن سعادة الأغلبية فى زماننا هذا، قد سبقها ما لا حصر له من المعاناة ومن الإبادات. العالم منذ بداياته وللآن أغلبه تعس، لاقى المظالم والأهوال والكوارث والنكبات، ولكنه نسى ظلمه وظالميه، كافياً مستكفياً بما كان وبات عليه من القلق والخوف والضياع، لنفسه ومَن هم فى حكم نفسه! وأحياناً ليست قليلة أودت هذه الشوائب بطوائف أو بلاد أو أمم أو شعوب بأسرها.. ترى ذلك كاملاً فيما حاق بالهنود الحمر فى القارة الأمريكية، وتراه جارياً على قدم وساق فيما جرى ويجرى بفلسطين وللفلسطينيين، وما يجرى للأقليات الطائفية فى بلدان العالم الذى يتغنى بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية!
القلّة القوية القادرة باتت من أول الدهر وإلى الآن مسيطرة مهيمنة على الكثرة التى برغم ضيقها وعنادها، ما زالت فى العموم مستسلمةً لأقدارها.
من قديم الزمان وإلى اليوم، وجدت المملكة والدولة والمجلس الشعبى المفرد والمزدوج والحكومة والوزارات وتوابعها والإدارات والعاملون الدائمون وغير الدائمين، وقسيمهم بحمله الثقيل الزارع والصانع والتاجر والمعمارى، والملىء والحاذق فى اصطياد كثرة الخلق من كل وجه بلا شفقة!
ومن الدولة وما يتبعها، عرف الآدميون من القدم ما هو مشاهد من الدور الضخمة والقصور والموانئ البرية والبحرية، والمدينة والقرية وما يلحق بهما من مساكن ومرافق وأحياء.. وعرفوا اليوم فى السنوات الأخيرة فوائد ومعانى الكون الهائل الذى جنت الإنسانية بعض ثماره وتحاول جَنْى المزيد والمزيد منه.
قد يمكننا العلم الناضج بالكون، من الاستفادة الحقيقية التى لا أول لها ولا آخر، من أعماق الأرض التى لم نكد نتجاوز سطحها حتى الآن إلاَّ قليلاً قريباً من السطح فى تكرار لم ينقطع.
فالبشر منذ قديم القدم يتصيد السيادة والثراء، وسنده قوة الذات والقدرة على استخدام الآخرين، وعدم المبالاة بعد ذلك بمجىء الحق للحق فحسب، أو التزام العدل فى أقصى ما فى مكنته. إذ يبدو أن الالتزام الكامل النظيف لا وجود له اليوم فى دنيانا التى أصلها دائماً الإرادة والقوة والعزيمة.
لا أمل حتى الساعة أن يتزعزع أحدٌ أو يتخلى عن مكانه الثابت الباقى فى أطماع الآدميين، ومن ثم فلا أمل فى الواقع ما لم تتمكن البشرية من الاستفادة من الكون الهائل بسمواته وأراضيه.
إذ لا يكفى أن يعيش البشر حتى الآن متمسكين بكل سطحياتهم، لا يتركون قط أنانيتهم وحيلهم التى لم تنقطع منذ القدم.
الآدمى دائم التغير يرجو مستقبلاً أفضل ينتظره، دون أن يعرف حقيقته قط، معرفةً صادقة، بل يختلط فيها دائماً الباطل والحق بنسب عجيبة غير قابلة للانضباط والثبات، لأن «أناه» غير ثابتة، تتحرك معه باستمرار من وقت لآخر وفق حركة عواطفه ومخاوفه وانفعالاته وأطماعه التى مع تشابهها لا تثبت قط على حال واحدة!
وماديات الأشياء فى الكون، بما فى ذلك أرضنا بأصولها وأنواعها ومواردها أطول ثَبَاتاً وأعماراً بما لا يقاس عليه مجىء الأحياء وذهابهم. الآدميون مروا ويمرون وسيمرون، يصافحون الماديات ويستعملونها، ثم يختفون من الوجود. وليس أمام البشر إلاَّ العودة إلى الأصل الغريزى لبقاء النوع، والبناء للأجيال القادمة، فلولا البذرة التى زُرعت الأمس، ما كانت الشجرة التى تفرز اليوم ثمارها ووارف ظلها.