هذا العنوان، عنوان عريضة خطّها فارس المحاماة فى الزمن الجميل، الأستاذ الكبير مصطفى مرعى، وقُدّمت إلى الملك فاروق الأول فى 18 أكتوبر 1950.. وقّعها مع مصطفى مرعى لفيف من عظماء المحاماة، بينهم إبراهيم عبدالهادى، ومحمد حسين هيكل، ومكرم عبيد، وحافظ رمضان، وعبدالسلام الشاذلى، وعبدالرحمن الرافعى، وإبراهيم الدسوقى أباظة، ورشوان محفوظ، وعلى عبدالرازق، وغيرهم من شوامخ القامات المصرية.. طفق مصطفى مرعى وصحبه يخاطبون بها ملك البلاد فى ذلك الزمان قائلين..
«يا صاحب الجلالة:
إن البلاد لتذكر لكم أياماً سعيدة كنتم فيها الراعى الصالح والرشيد، وكانت تحفّ بكم أمة تلاقت عند عرشكم آمالها، والتفت حول شخصكم قلوبها، فما واتتها فرصة إلا دلت فيها على عميق الولاء والوفاء، وما العهد ببعيد بحادث القصاصين، وقد أنقذكم الله من مخاطره وهو أرحم الراحمين.
واليوم تجتاز البلاد مرحلة قد تكون من أدق مراحل تاريخها الحديث، ومن أسف أنها كلما اتجهت إلى العرش فى محنتها، حيل بينه وبينها، لا لسبب إلا لأن الأقدار قد أفسحت مكاناً فى الحاشية الملكية لأشخاص لا يستحقون هذا الشرف فأساءوا النصح وأساءوا التصرف، بل إن منهم من حامت حول تصرفاتهم ظلال كثيفة من الشكوك والشبهات هى الآن مدار التحقيق الجنائى الخاص بأسلحة جيشنا الباسل، حتى ساد الاعتقاد بين الناس أن يد العدالة ستقصر حتماً عن تناولهم بحكم مراكزهم، كما ساد الاعتقاد من قبل أن الحكم لم يعد للدستور، وأن النظام النيابى قد أضحى حبراً على ورق، منذ أن عصفت العواصف بمجلس الشيوخ فصدرت مراسيم يونيو سنة 1950 التى قضت على حرية الرأى فيه وزيفت تكوين مجلسنا الأعلى، كما زيفت الانتخابات الأخيرة من قبل تكوين مجلس نوابنا!
ومن المحزن أنه قد ترددت على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء هذه المساوئ وغيرها من الشائعات الذائعات، التى لا تتفق مع كرامة البلاد، حتى أصبحت سمعة الحكم المصرى مضغة فى الأفواه، وأمست صحافة العالم تصورنا فى صورة شعب مهين، يُسام الضيم فيسكت عليه، بل ولا يتنبه إليه، ويُساق كما تساق الأنعام، والله يعلم أن الصدور منطوية على غضب تغلى مراجله، وما يمسكها إلا بقية من أمل يعتصم به الصابرون!
يا صاحب الجلالة:
لقد كان حقَّاً على حكومتكم أن تصارحكم بهذه الحقائق، ولكنها درجت فى أكثر من مناسبة على التخلص من مسئوليتها الوزارية، بدعوى «التوجيهات الملكية»، وهو ما يخالف روح الدستور، وصدق الشعور. ولو أنها فطنت لأدركت أن الملك الدستورى يملك ولا يحكم. كما أنها توهمت أن فى رضاء الحاشية ضماناً لبقائها فى الحكم، وستراً لما افتضح من تصرفاتها، وما انغمست فيه من سيئاتها، وهى هى لا تزال أشد حرصاً على البقاء فى الحكم وعلى مغانمه منها على نزاهته، ولهذا لم نر بداً من أن ننهض بهذا الواجب فنصارحكم بتلك الحقائق ابتغاء وجه الله والوطن، لا ابتغاء حكم ولا سلطان، وبراً بالقسم الذى أديناه أن نكون مخلصين للوطن والملك والدستور وقوانين البلاد، وما الإخلاص لهذه الشعائر السامية إلا إخلاص الأحرار الذى يوجب علينا التقدم بالنصيحة كلما اقتضاها الحال.
يا صاحب الجلالة:
إن احتمال الشعب مهما يطل فهو لا بد منتهٍ إلى حد، وإننا لنخشى أن تقوم فى البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم، بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالى وسياسى وخلقى، فتنتشر فيها المذاهب الهدامة، بعد أن مهدت لها آفة استغلال الحكم أسوأ تمهيد..
لهذا كله، نرجو مخلصين أن تصحح الأوضاع الدستورية تصحيحاً شاملاً، وعاجلاً، فترد الأمور إلى نصابها، وتعالج المساوئ التى تعانيها مصر على أساس وطيد من احترام الدستور، وطهارة الحكم، وسيادة القانون، بعد استبعاد من أساءوا إلى البلاد وسمعتها، ومن غضوا من قدر مصر وهيبتها، وفشلوا فشلاً سحيقاً فى استكمال حريتها ووحدتها ونهضتها، حتى بلغ بهم الفشل أن زلزلوا قواعد حكمها وأمنها وأهدروا فوق إهداره اقتصادها القومى، فاستفحل الغلاء إلى حد لم يسبق له مثيل، وحرموا الفقير قوته اليومى.
ولا ريب أنه ما من سبيل إلى اطمئنان أية أمة لحاضرها ومستقبلها، إلاّ إذا اطمأنت لاستقامة حكمها، فيسير الحاكمون جميعاً فى طريق الأمانة على اختلاف صورها، متقين الله فى وطنهم، ومتقين الوطن فى سرهم وعلنهم.
والله جلت قدرته هو الكفيل بأن يكلأ الوطن برعايته، فيسير شعب الوادى قدماً إلى غايته».
يوم صاغ مصطفى مرعى ووقّع مع من وقّعوا هذه الوثيقة، لم يكن يملك دبابة ولا مدفعاً، ولم يكن ينتمى لحزب أو لآخر، ولم يكن عضواً بجماعة تحميه..
لقد وقّع معه هذه الصحيفة نفر من شوامخ رجالات مصر..
بيد أنه سيبقى لمصطفى مرعى أنه كان الوحيد ممن وقّعوا العريضة، الذى لا يتدرع بجماعة أو بحزب يحميه.. حسبه أنه كان مصطفى مرعى المحامى الفارس وكفى!!
مصطفى مرعى
ومصطفى مرعى لمن لا يعرف هو الذى مثّل فى تاريخ بلاده شجاعة المثقفين الذين عملوا لمجد مصر فى ساحات القضاء وفى المجلس التشريعى وفى الصحافة حتى قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952. ومثّل فى القضاء خصائص المحاماة كما أعلنها وهى «الكرامة والحرية والكفاح». ومثّل فى المحاماة خصائص القضاء التى بلغ فيها القمة وهى تقديس «المشروعية» والكفاح من أجل «الحرية».
وبهذا المزاج المطلوب فى عصره، وفى كل عصر، والذى لا يزال غرضاً مطلوباً من القضاء بمصر، بلغ مصطفى مرعى أوجّه.
وقد أقمنا حفلاً لتأبينه بدار نقابة المحامين فى 17/12/1987، وأبديت فى كلمتى أنه جمعتنى بهذا الراحل العظيم فى سنواته الأخيرة صلة متينة متجددة كانت امتداداً لعلاقته وأبى عطية عبده المحامى، رحمهما الله، صلة جمعتهما فى عملهما بالمحاماة منذ تخرجا فى مدرسة الحقوق الملكية (جامعة القاهرة الآن): مصطفى مرعى المحامى فى عام 1923، وعطية عبده المحامى فى عام 1925..
يومها ناديت روحه مودعاً.. قلت له لقد رحلت عن دنيا الناس، وكنت أنت وحدك ولا أحد سواك، بصوتك فقط، وبعلمك فقط، وبإخلاصك فقط، وبحضورك فقط.. كنت قادراً على أن تملأ الدنيا بأسرها، وأن تحشد فى هذه القاعة بدل العشرات ألوفاً.. فأين نحن من قمة قممنا الشامخة؟ وأين نحن من حضورك وعلمك وأستاذيتك ودافق حديثك؟!
أستاذى العظيم.. أخالك من موضعى تحدثنى من هناك بحديثك، فأسترجع كلماتك حين وقفت فى مجمع اللغة العربية تلقى بكلمتك المرتجلة فتقول:
أغرب الغرباء.. من صار غريباً فى وطنه!
وأبعد البعداء.. من كان بعيداً فى محل قربه!
لأن غاية المطلوب أن يسلو عن الموجود وأن يغمض عن المشهود وأن يقصى عن المعهود.
يا هذا الغريب.
من إذا ذَكَر الحق هُجر.
وإذا دَعا إلى الحق زُجر.
كان عليك ضريبة يجب أن تدفعها، وقد دفعتها!
أن تحيا فى الدنيا غريباً، إلا لدى القلة القليلة التى فطرت نفسها على الحق وتجردت له!!
الاستقالة من وزارة سرى باشا
فى استقالته من وزارة حسين سرى باشا، التى لم يتريث فيها حتى يستكمل حقه فى معاش الوزير، كتب إليه يقول:
«تحية: وبعد، فأنت تعلم، كما يعلم غيرك، أنى إنما اشتركت فى حكومتك على أمل فيك، أن لك غاية هى جمع الكلمة، وضم الصفوف. وأن لك هدفاً هو جمع القوى المؤتلفة على مواجهة الخطر من مشاكلنا الخارجية والداخلية. وقد تبين لى أنك لا تتغيا هذه الغاية. ولا تتوسل بوسائلها. بل إنك لتبدو كما لو كنت مسلطاً لتجعل من كل حزب حزبين وكل فرقة فرقتين.
وقد رأيتك بنفسى ترى الرأى للحق وتنقضه للباطل. وتقول الكلمة وتنكرها. ولم يقع ذلك مرة واحدة فى تافه من الأمر بل وقع مراراً. وفى الخطير من شئون الدولة.
أما لفظك. وأما عبارتك. وأما أسلوبك فى إدارة مناقشات مجلس الوزراء فقد أصبح هذا كله مضرب الأمثال وموضع التندر فى كل مكان.
لهذا أحيطك علماً باعتزالى العمل فى الوزارة. والله المسئول أن يدفع عن بلادنا السوء وأن يقيها غوائل الفساد».
ما أحوجنا فى كل وقت إلى هؤلاء الفرسان النبلاء!