فى الأسابيع الأربعة الأخيرة ظهرت ملامح وجه مشين لمواقع التواصل الاجتماعى، التى انخرط بعض الناشطين عبرها فى عمليات اختلاق وتزوير فاضحة على خلفية صراع سياسى، سعت خلاله الأطراف المتصارعة إلى خلق انطباعات زائفة، وإثارة الكراهية، والتحريض على العنف.
تُعد مواقع «التواصل الاجتماعى» أحد أهم تجليات مشهد ما يُسمى بـ«الإعلام الجديد»، وهو أمر يطرح إشكاليات كبرى، بسبب التطورات المتلاحقة التى تنتج عن تزاوج التقدم الكبير فى تكنولوجيا الاتصال من جانب والممارسات الإعلامية من جانب آخر.
تشير معظم التوقعات إلى أن مستقبل الأنشطة الإعلامية سيكون فى «الإعلام الجديد»، وهو أمر يخصم مباشرة من رصيد وسائط الإعلام التقليدية، ويضع كافة أدبيات تنظيمها وحوكمتها وعقلنتها ومحاسبتها على المحك، كما يطرح ضرورة أن تتضافر الجهود من أجل إيجاد وسائل لحوكمة استخدامات الشبكات الاجتماعية بسرعة وفاعلية يمكن أن تتواكب مع التطورات المذهلة التى تشهدها تلك الشبكات، والحصة المتزايدة التى تشغلها فى الفضاء المجتمعى والإنسانى.
ويتحدث كتاب «اتجاهات جديدة فى وسائل التواصل الاجتماعى» New Trends in social Media، الصادر عن معهد البحوث التابع لحلف شمال الأطلسى، NATO) Stratcom Center of Excellence)، عن «تطور دراماتيكى فى بيئة المعلومات الدولية، أدى إلى أن يتضاءل دور الحكومات والأجهزة الرسمية ووسائل الإعلام التقليدية، لحساب مواقع التواصل الاجتماعى».
ويعدد الكتاب السمات الرئيسية للمشهد الاتصالى الجديد فى ضوء هيمنة مواقع التواصل الاجتماعى، على النحو التالى:
- الإتاحة Accessibility، التى تنشأ عن قدرة الأفراد والجماعات على الوصول إلى النطاق الجماهيرى.
- السرعة Speed، حيث يمكن أن يتم الوصول إلى نطاقات الجمهور المستهدف بسرعة كبيرة مقارنة بالوسائط التقليدية.
- الإخفاء Anonymity، إذ يمكن للمتصل أن يُخفى هويته، وبالتالى لا يتعرض للمساءلة عن نوع المحتوى الذى يبثه، ومدى اتساقه مع القوانين والضوابط المرعية.
- الحجم الكبير High Volume of Information، فى إشارة إلى التدفق المعلوماتى الكبير.
- اللاحدود No Geographic or Content Related Borders، فى إشارة إلى تجاوز دور الحدود الجغرافية عبر إمكانيات البث المتخطى للحدود.
بسبب هذه التطورات الدراماتيكية تنشأ مخاطر كبيرة عن الاستخدامات المسيئة لشبكات «التواصل الاجتماعى»، ويعتقد البعض أن هذه المخاطر تتعلق بالأمن السياسى فقط، وهو اعتقاد خاطئ بكل تأكيد؛ إذ يتسع أثرها ليشمل المستخدمين أنفسهم، وهو الأمر الذى يظهر فى تضرر مصالح الأفراد، وتعرضهم للجرائم، وانخراطهم فى صراعات جرّاء بعض أنماط الاستخدام.
وعلى صعيد الأمن السياسى، تقول الفرضية التى يطرحها الباحث الأمريكى «توماس نيشن» Thomas Nissen، فى كتابه «تسليح السوشيال ميديا» The Weaponization of Social Media، الصادر فى العام 2016، إن تلك الوسائط الجديدة باتت «تحكم السياسات العالمية، وأعادت تشكيل آليات التواصل المصاحبة للنزاعات والحروب، وتحولت سلاحاً رئيسياً فى المعارك».
وتمثل معركة سقوط الموصل، التى جرت وقائعها المثيرة فى يونيو من العام 2014، البرهان الأوضح على الدور المتصاعد لـ«وسائط التواصل الاجتماعى» فى حسم عمليات القتال.
لقد نجح نحو 1500 مقاتل من «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش) آنذاك، فى احتلال واحدة من أكبر محافظات العراق، فى معركة خاطفة لم تستغرق سوى أربعة أيام، تم حسمها بعدما هربت القوة العسكرية المسئولة عن حماية المدينة رغم ضخامة عددها وعتادها. عندما حاول الخبراء والمحللون المختصون تحليل دوافع هروب تلك القوة المدججة بالسلاح، وترك المدينة لقمة سائغة فى أيدى الغزاة «الدواعش»، تبين لهم أن «عمليات قصف مباشرة ومركّزة عبر (السوشيال ميديا) دفعت آلاف الضباط والجنود إلى الهرب»، بعدما أصابتهم بالهلع، وقوّضت روحهم المعنوية، وأغرقتهم فى اليأس والخطل.
ويمكن إجمال المخاطر الناشئة عن استخدام تلك الوسائل فى ما يلى:
- تحولت وسائط الإعلام الجديد إلى آلية للحشد والتعبئة وبنية اتصالية أساسية لتنظيم بعض الاحتجاجات وأعمال العنف والشغب فى أكثر من بلد عربى.
- زيادة كبيرة فى اعتماد الجماعات الإرهابية على وسائط الإعلام الجديد فى عمليات التجنيد والاستقطاب.
- تحول بعض وسائط التواصل الاجتماعى إلى آلية لتعليم تصنيع المتفجرات والعبوات الناسفة وكيفية القيام بالعمليات الإرهابية.
- يتم استخدام بعض وسائط التواصل الاجتماعى فى تقويض الروح المعنوية للجمهور والجيوش النظامية.
- يتم بث الكثير من الشائعات والأخبار المضللة والمحرفة عبر وسائط التواصل الاجتماعى التى لا تخضع لأى ضبط أو رقابة بما يحولها إلى أدوات لتنفيذ أهداف قوى مشبوهة أو وسائل لتقويض الأمن القومى.
- تشن بعض الدول هجمات منسقة عبر تسخير منصات التواصل الاجتماعى ضد الحكومات والدول وأتباع الأديان والمذاهب المختلفة.
بسبب تصاعد مخاطر الاستخدامات المسيئة لتلك الشبكات، انقسم النقاد إزاء عملية تحجيم مخاطرها إلى قسمين؛ أحدهما يرى ضرورة كبحها عبر سن القوانين، واستخدام الإجراءات الخشنة تجاه تجاوزاتها، وثانيهما رأى ضرورة العمل على حوكمتها.
تُعرف الحوكمة بأنها خليط من السلام والنظام والعدل، وإخضاع الأداء للتقييم، عبر أنماط للرصد والمحاسبة والمساءلة، بشكل يضمن رشد التفاعل ويحمى مصالح أطرافه.
يجب اتباع بعض القواعد التى يمكن من خلالها عقلنة التفاعلات الجارية عبر وسائط التواصل الاجتماعى، باتباع نهج الحوكمة، ومن أهم ما يمكن فعله فى هذا الصدد ما يلى:
- وضع استراتيجية متكاملة (على المستويات المحلية، والوطنية، والإقليمية، والدولية) لحوكمة الشبكات الاجتماعية، ترتكز على ضرورة حماية حرية التفاعل، والحق فى التعبير عن الذات، وترشيد الاستخدام، بما يكفل حماية الأطراف المشاركة والمصالح العامة.
- دعم وتطوير ثقافة التربية الإعلامية، عبر تفعيل مناهجها، من خلال المشاركة مع فعاليات دولية معتبرة وذات خبرة فى هذا المجال.
- تقديم حوافز للمستخدمين، يمكن من خلالها تعزيز المشاركات الإيجابية.
- سن قوانين فعالة لمكافحة الجرائم الإلكترونية.
- إرساء مواثيق الشرف، وأكواد الاستخدام، وإقناع مزودى الخدمات بتبنيها، والترويج لها بين جماعات المستخدمين.
- إلزام شركات التكنولوجيا العملاقة المشغلة لهذه الوسائط بضمان عدم تورطها فى إشاعة الأخبار الكاذبة والاختلاق والتثوير والتحريض وإشاعة خطاب الكراهية.
إن الإسراع فى جهود حوكمة الشبكات الاجتماعية ضرورة، والتقاعس عن تفعيلها ستكون له عواقب وخيمة.