وكما لم يتعظ قوم نوح، وعاندوا وأنكروا هداية العقل، جاء إنكار الغابرين من بعدهم، ترى غياب العقل حاضراً فى كفرهم وفى إنكارهم وفى عنادهم وفى إصرارهم على ما هم فيه من ضلال.. تكرر هذا من عاد قوم النبى هود، عليه السلام، ومن ثمود قوم النبى صالح، ومن قوم لوط.. نكاد لا نرى إلاَّ اختلاف الصور والمشاهد، ولكنها مردودة جميعها إلى خيط واحد يرينا كيف يفعل الإنسان حين يغيب عقله..
تروى سورة الشعراء جانباً من هذه المشاهد المتكررة، فتورد عما كان بين هود، عليه السلام، وقومه عاد: «كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» (الشعراء 123 - 135).
فبماذا ردوا على هذه الدعوة المضيئة العاقلة الهادية؟!: «قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» (الشعراء 136 - 140).
وكما كانت لجاجة عاد، وما حاق بها، جاءت لجاجة ثمود مع النبى صالح، عليه السلام: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» (الشعراء 141 - 152).. واستعلت ثمود واستكبرت، وعاندت وبالغت فى عنادها، وأوصدت عقولها، واستبدلتها بالمكابرة واللجاجة والسخرية: «قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» (الشعراء 153 - 159).
تنتقل سورة الشعراء، بعد بيان ما كان عن عاد وثمود، إلى ما كان من قوم لوط الذين أبوا إلاَّ مخالفة النواميس، وأخذتهم العزة بالإثم الغارقين فيه، ولم يبالوا بنصح لوط، عليه السلام، لهم.. فتقول الآيات: «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَّ تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ» (الشعراء 160 - 166).
أوصد هؤلاء المنكرون عقولهم، ولم يلتفتوا إلى قبح ما يفعلون، ومخالفته للطبائع التى لا يخالفها حتى الحيوانات والضوارى، فمضوا فى حماقاتهم وعنادهم وتمسكهم الضرير بما يرتكبونه من موبقات: «قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» (الشعراء 167 - 175).
بعد ذلك تعرض سورة الشعراء إلى ما كان من أصحاب الأيكة، وهى الأرض ذات الشجر الملتف، قوم شعيب، عليه السلام.. إذ قال لهم عليه السلام: ألا تخشون عقاب الله على شرككم ومعاصيكم وغشكم وتطفيفكم فى الكيل والموازين، وبخسكم الناس أشياءهم وعيثكم فى الأرض فساداً؟.. إلاّ أنه لم يفلح معهم التبصير، ولا نفعت معهم هداية، ولا أجدى معهم التحذير والنذير، فردوا بلا عقل مجادلين: «قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» (الشعراء 185 - 191).
� � �
قدمت سورة الشعراء، على ما رأينا ما كان بين النبى شعيب، عليه السلام، وبين قومه: أصحاب الأيكة.. وفى ذلك فصّلت سورة هود الحديث فيما كان من هؤلاء من عناد وإنكار وصدود عن الحق الذى جاءهم به ومن المحال أن ترفضه العقول. ففى الآيتين 84، 85 من سورة هود: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّىَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّىَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ».. ورسالة هاتين الآيتين لا تقف عند ظاهر الكيل والميزان، وإنما تتعدى الظاهر إلى الرسالة الأعمق.. وهى العدل والكفاية فى الحقوق بعامة أن يعطى كلٌّ كلَّ ذى حق حقه، فلا يبخسه، ولا يكتال عليه، ولا يتغول على حقوقه، ولا يظلمه أو يجور عليه. فإذا كان رفض الإنصاف يمكن أن يُعزى إلى الجبلة والأثرة الآدمية التى تضيق بإعطاء الحق من نفسها، فإن عناد هؤلاء ورفضهم للتوحيد وعبادة الله الذى لا إله غيره، لم يكن إلاَّ عناداً صرفاً صادراً عن التصلب وإغلاق العقول، ولكنهم أخذوا يختلقون التعلات مصدرين المال وقوانينه!! لرفض دعوته جملة وفى مقدمتها دعوته إلى التوحيد وعبادة رب العالمين.. فتقول الآيات: «قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» (هود 87).. فطفق شعيب، عليه السلام، يبصرهم ويعظهم ويذكرهم بما هم فيه من خير يفرض عليهم القسط واجتناب معصية الله الذى وهبهم وأعطاهم ما هم فيه، وينذرهم ويحذرهم مما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح أو قوم لوط من قبلهم، ويدعوهم إلى الاستغفار والتوبة إلى ربهم الرحيم الودود. فماذا فعلوا؟ وكيف استقبلوا هذه الدعوة الهادية؟! «قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ» (هود 91).. ومضوا فأصموا آذانهم وأغلقوا عقولهم واستمسكوا بما هم فيه من ضلال عناداً وكفراً، حتى نزل بهم عقاب الحكم العدل، فتقول الآيات: «وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ» (هود 94، 95).